البحث الثالث : أنهم كانوا يقولون :﴿مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِا لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيرًا﴾ (الفرقان : ٧) فأجاب الله بقوله :﴿وَمَا جَعَلْنَـاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ فبين تعالى أن هذه عادة الله في الرسل من قبل وأنه لم يجعلهم جسداً لا يأكلون بل جسداً يأكلون الطعام ولا يخلدون في الدنيا بل يموتون كغيرهم، ونبه بذلك على أن الذي صاروا به رسلاً غير ذلك وهو ظهور المعجزات على أيديهم وبراءتهم عن الصفات القادحة في التبليغ، أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : هو مثل قوله :﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه سَبْعِينَ رَجُلا﴾ (الأعراف : ١٥٥) والأصل في الوعد ومن قومه ومنه صدقوهم المقال :﴿وَمَن نَّشَآءُ﴾ هم المؤمنون، قال المفسرون : المراد منه / أنه تقدم وعده جل جلاله بأنه إنما يهلك بعذاب الاستئصال من كذب الرسل دون نفس الرسل ودون من صدق بهم، وجعل الوفاء بما وعد صدقاً من حيث يكشف عن الصدق ومعنى :﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسِْرفِينَ﴾ أي بعذاب الاستئصال وليس المراد عذاب الآخرة لأنه إخبار عما مضى وتقدم/ ثم بين تعالى بقوله :﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَـابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا، فلذلك قال فيه :﴿ذِكْرُكُمْ ﴾ وفيه ثلاثة أوجه : أحدها ؛ ذكركم شرفكم وصيتكم، كما قال :﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ (الزخرف : ٤٤). وثانيها : المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب، ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد، كما قال :﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات : ٥٥). وثالثها : المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل، وقوله :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا عقلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٣
١٢٤
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزاً، وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال :﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ قال صاحب "الكشاف" القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف القصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعاً لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى :﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ﴾ فالمعنى أهلكنا قوماً وأنشأنا قوماً آخرين وقال :﴿فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه / الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهماً للكذب، واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس : المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب. وفي الحديث :"كفن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ثوبين سحوليين" وروى :"حضوريين بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم" وروى :"أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء" فندموا واعترفوا بالخطأ، وقال الحسن : المراد عذاب الاستئصال، واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية، وأما قوله تعالى :﴿فَلَمَّآ أَحَسُّوا بَأْسَنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٤