أما قوله مغاضبة القوم أيضاً كانت محظورة لقوله تعالى :﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ (القلم : ٤٨) قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة، فإن الله تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً مظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز، من حيث إنه لم يفعله إلا غضباً لله تعالى وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من الله / تعالى في المهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى :﴿وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ كأن الله تعالى أراد لمحمد صلى الله عليه وسلّم أفضل المنازل وأعلاها. والجواب عن الشبهة الثانية : وهي التمسك بقوله تعالى :﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أن نقول من ظن عجز الله تعالى فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه : أحدها :﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ لن نضيق عليه وهو كقوله تعالى :﴿اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه وَيَقْدِرُ ﴾ (العنكبوت : ١٢) أي يضيق :﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه ﴾ (الفجر : ١٦) أي ضيق :﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه ﴾ (الطلاق : ٧) أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه، واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا، وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، وهذا من الله تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك. وثانيها : أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر الله تعالى. وثالثها : أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم واختيار الفراء والزجاج، قال الزجاج : نقدر بمعنى نقدر. يقال : قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً، فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري :(فظن أن لن نقدر عليه بضم) النون والتشديد من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب :(يقدر عليه) بالتخفيف على المجهول، وروي أنه دخل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فعرفت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك فقال : وما هي ؟
قال : يظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه ؟
فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذا من القدر لا من القدرة. ورابعها : فظن أن لن نقدر : أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل مناسبة فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر. وخامسها : أنه استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه عن ابن زيد. وسادسها : أن على قول من يقول هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس عليه السلام كان هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة، ولا يبعد في حق غير الأنبياء والرسل أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان. ثم إنه يرده بالحجة والبرهان. والجواب عن الثالث : وهو التمسك بقوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣
﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ فهو أن نقول إنا لو حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام، ولو حملناه على ما بعدها فهي واجبة التأويل لأنا لو أجريناها على ظاهرها، لوجب القول بكون النبي مستحقاً للعن، وهذا لا يقوله مسلم، وإذا وجب التأويل فنقول لا شك أنه كان تاركاً للأفضل مع القدرة على تحصيل الأفضل فكان ذلك ظلماً. والجواب عن الرابع : أنا لا نسلم أن ذلك كان عقوبة إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، بل المراد به المحنة، لكن كثير من المفسرين يذكرون في كل مضرة تفعل / لأجل ذنب أنها عقوبة. والجواب عن الخامس : أن الملامة كانت بسبب ترك الأفضل.
المسألة الرابعة : قال صاحب "الكشاف" في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى :﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ﴾ (البقرة : ١٧) وقوله :﴿يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ ﴾ (البقرة : ٢٥٧) ومنهم من اعتبر أنواعاً مختلفة من الظلمات فإن كان النداء في الليل فهناك ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت، وإن كان في النهار أضيف إليه ظلمة أمعاء الحوت، أو أن حوتاً ابتلع الحوت الذي هو في بطنه، أو لأن الحوت إذا عظم غوصه في قعر البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة، أما قول من قال : إن الحوت الذي ابتلعه غاص في الأرض السابعة فإن ثبت ذلك بخبر فلا كلام، وإن قيل بذلك لكي يقع نداؤه في الظلمات فما قدمناه يغني عن ذلك.


الصفحة التالية
Icon