أما قوله :﴿أَن لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ﴾ فالمعنى بأنه لا إله إلا أنت، أو بمعنى أي، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له" وعن الحسن : ما نجاه الله تعالى إلا بإقراره عن نفسه بالظلم.
أما قوله سبحانك فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله :﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أنه ظن العجز، وإنما قال :﴿سُبْحَـاـنَكَ﴾ لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جوراً أو شهوة للانتقام، أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
أما قوله :﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ فالمعنى ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك، كأنه قال : كنت من الظالمين، وأنا الآن من التائبين النادمين، فاكشف عني المحنة، يدل عليه قوله :﴿فَاسْتَجَبْنَا لَه ﴾ وفيه وجه آخر وهو أنه عليه السلام وصفه بقوله :﴿لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ﴾ بكمال الربوبية ووصف نفسه بقوله :﴿إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ بضعف البشرية والقصور في أداء حق الربوبية، وهذا القدر يكفي في السؤال على ما قال المتنبي :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وروى عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"لما أراد الله حبس يونس عليه السلام، أوحى إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً" فأخذه وهوى به إلى أسفل البحر، فسمع يونس عليه السلام حساً، فقال في نفسه : ما هذا ؟
فأوحى الله إليه هذا تسبيح دواب البحر/ قال فسبح، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا مثله.
أما قوله :﴿وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾ أي من غمه بسبب كونه في بطن الحوت، وبسبب خطيئته، وكما أنجينا يونس عليه السلام من كرب الحبس إذ دعانا : كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا. روى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"دعوة ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، ما دعا بها عبد مسلم قط وهو مكروب إلا استجاب الله دعاءه". / قال صاحب "الكشاف" : قرىء ننجي وننجي ونجى والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال : نجى النجاء المؤمنين فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين بالنجاء، فتعسف بارد التعسف.
(القصة التاسعة، قصة زكريا عليه السلام)
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٦٣
١٨٣
اعلم أنه تعالى بين انقطاع زكريا عليه السلام إلى ربه تعالى لما مسه الضر بتفرده، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه ويكون قائماً مقامه بعد موته، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بأنه قادر على ذلك، وإن انتهت الحال به وبزوجته من كبر وغيره إلى اليأس من ذلك بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان سنه مائة وسن زوجته تسعاً وتسعين.
أما قوله :﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ ففيه وجهان : أحدهما : أنه عليه السلام إنما ذكره في جملة دعائه على وجه الثناء على ربه ليكشف عن علمه بأن مآل الأمور إلى الله تعالى. والثاني : كأنه عليه السلام قال :"إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث".
وأما قوله تعالى :﴿فَاسْتَجَبْنَا لَه ﴾ أي فعلنا ما أراده لأجل سؤاله، وفي ذلك إعظام له، فلذلك تقول العلماء بأن الاستجابة ثواب لما فيه من الإعظام.
وأما قوله تعالى :﴿وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى ﴾ فهو كالتفسير للاستجابة وفي تفسير قوله :﴿وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه ا ﴾ ثلاثة أقوال : أحدها : أصلحها للولادة بأن أزال عنها المانع بالعادة، وهذا أليق بالقصة. والثاني : أنه أصلحها في أخلاقها وقد كانت على طريقة من سوء الخلق وسلاطة اللسان تؤذيه وجعل ذلك من نعمه عليه. والثالث : أنه سبحانه جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه في كونه داعياً إلى الله تعالى فكأنه عليه السلام سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعاً. وهذا كأنه أقرب إلى الظاهر لأنه إذا قيل : أصلح الله فلاناً فالأظهر فيه ما يتصل بالدين، واعلم أن قوله :﴿وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه ا ﴾ يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب / لأن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ وبين تعالى مصداق ما ذكرناه فقال :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ﴾ وأراد بذلك زكريا وولده وأهله فبين أنه آتاهم ما طلبوه وعضد بعضهم ببعض من حيث كانت طريقتهم أنهم يسارعون في الخيرات، والمسارعة في طاعة الله تعالى من أكبر ما يمدح المرء به لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٨٣


الصفحة التالية
Icon