أما قوله تعالى :﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ قرىء رغباً ورهباً وهو كقوله :﴿يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّه ﴾ والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين : أحدهما : الفزع إلى الله تعالى لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة في عقابه. والثاني : الخشوع وهو المخافة الثابتة في القلب، فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفاً من الإثم.
(القصة العاشرة، قصة مريم عليها السلام)
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٨٣
١٨٤
اعلم أن التقدير واذكر التي أحصنت فرجها، ثم فيه قولان : أحدهما : أنها أحصنت فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت :﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ (مريم : ٢٠). والثاني : من نفخة جبريل عليه السلام حيث منعته من جيب درعها قبل أن تعرفه والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ.
وأما قوله :﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ فلقائل أن يقول : نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال تعالى :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر : ٢٩) أي أحييته وإذا ثبت ذلك كان قوله :﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ ظاهر الأشكال لأنه يدل على إحياء مريم عليها السلام. والجواب من وجوه : أحدها : معناه فنفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها كما يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي في المزمار في بيته. وثانيها : فعلنا النفخ في مريم عليها السلام من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها ثم بين تعالى بأخصر الكلام ما خص به مريم وعيسى عليهما السلام من الآيات فقال :﴿وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ أما مريم فآياتها كثيرة : أحدها : ظهور الحبل فيها لا من ذكر فصار ذلك آية ومعجزة خارجة عن العادة. وثانيها : أن رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة وهو قوله تعالى :﴿أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه ﴾. وثالثها ورابعها : قال الحسن إنها لم تلتقم ثدياً يوماً قط وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى عليه السلام، وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها فبين سبحانه أنه جعلهما آية للناس يتدبرون فيما خصا به من الآيات ويستدلون به على قدرته وحكمته سبحانه / وتعالى فإن قيل : هلا قيل آيتين كما قال :﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ ﴾ (الإسراء : ١٢) قلنا ؛ لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. وهنا آخر القصص.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٨٤
١٨٦
قال صاحب "الكشاف" : الأمة الملة وهو إشارة إلى ملة الإسلام، أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها يشار إليها بملة واحدة غير مختلفة، وأنا إلهكم إله واحد فاعبدون، ونصب الحسن (أمتكم) على البدل من هذه ورفع أمة خبراً وعنه رفعهما جميعاً خبرين أو نوى للثاني المبتدأ.
أما قوله تعالى :﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ ﴾ والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفات كأنه ينقل عنهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء، والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقسمونه فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى.
أما قوله تعالى :﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ فقد توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة واحدة، قالوا : يا رسول الله من تلك الفرقة الناجية ؟
قال : الجماعة الجماعة الجماعة" فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى :﴿وَإِنَّ هَـاذِه أُمَّتُكُمْ﴾ الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلى الله عليه وسلّم في الناجية إنها الجماعة إشارة إلى أن هذه أشار بها إلى أمة الإيمان وإلا كان قوله في تعريف الفرقة الناجية إنها الجماعة لغواً إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد وطعن بعضهم في صحة هذا الخبر، فقال : إن أراد بالثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فلم يبلغ هذا القدر، وإن أراد الفروع فإنها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك، وقيل أيضاً : قد روى ضد ذلك، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة. والجواب : المراد ستفترق أمتي في حال ما وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال لا يجوز أن يزيد وينقص.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٨٦
١٨٩