اعلم أنه سبحانه لما ذكر أمر الأمة من قبل وذكر تفرقهم وأنهم أجمع راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِه ﴾ بين أن من جمع بين أن يكون مؤمناً وبين أن يعمل الصالحات فيدخل في الأول العلم والتصديق بالله ورسوله وفي الثاني فعل الواجبات وترك المحظورات :﴿فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِه ﴾ أي لا بطلان لثواب عمله وهو كقوله تعالى :﴿وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَ أولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء : ١٩) فالكفران مثل في حرمان الثواب والشكر مثل في إعطائه وقوله :﴿فَلا كُفْرَانَ﴾ المراد نفي الجنس ليكون في نهاية المبالغة لأن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها.
وأما قوله تعالى :﴿وَإِنَّا لَه كَـاتِبُونَ﴾ فالمراد وإنا لسعيه كاتبون، فقيل : المراد حافظون لنجازي عليه، وقيل : كاتبون إما في أم الكتاب أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة، والمراد بذلك ترغيب العباد في التمسك بطاعة الله تعالى.
أما قوله :﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآ أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ فاعلم أن قوله :﴿وَحَرَامٌ﴾ خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله :﴿أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ أو شيء آخر أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعاً كان رجوعهم واجباً فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا. أما الأول : فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا / كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر. وأما الثاني : فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين : الأول : أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى :﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْـاًا ﴾ (الأنعام : ١٥١) وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٨٩
وإن حراماً لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجباً، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين : أحدهما : أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن. وثانيها : لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل. الوجه الثاني : أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله :﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ صلة زائدة كما أنه صلة في قوله :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ (الأعراف : ١٢) والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله :﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى ا أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ (يس : ٥٠) أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين، وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبراً لقوله :﴿أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ أما إذا جعلناه خبراً لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال :﴿أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضاً على هذا أي أنهم لا يرجعون.
أما قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ففيه مسائل :