المسألة الثانية : الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر، وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوهاً : أحدها : أنه الشرك، يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله تعالى، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل. وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في عبدالله بن سعد حيث استسلمه النبي صلى الله عليه وسلّم فارتد مشركاً، وفي قيس بن ضبابة. وقال مقاتل : نزلت في عبدالله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافراً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتله يوم الفتح كافراً. وثالثها : قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد. ورابعها : دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم. وخامسها : أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير. وسادسها : المنع من عمارته. وسابعها : عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله. وعن عبد الله بن عمر أنه كان له قسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله. وثامنها : وهو قول المحققين : أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي، لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه : لو أن رجلاً بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً. وقال مجاهد : تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات، فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله :﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم، فإن كل عذاب يكون أليماً، إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية.
المسألة الثالثة : الباء في قوله :﴿بِإِلْحَاد ﴾ فيه قولاه : أحدهما : وهو الأولى وهو اختيار صاحب "الكشاف" أن قوله :﴿بِإِلْحَادا بِظُلْمٍ﴾ حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب أليم، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده. الثاني : قال أبو عبيدة : مجازه ومن يرد فيه إلحاداً والباء من حروف الزوائد.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٢
المسألة الرابعة : لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
أما قوله تعالى :﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فهو بيان الوعيد وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من قال الآية نزلت في ابن خطل قال : المراد بالعذاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قتله يوم الفتح، ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم، بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به.
المسألة الثانية : أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه.
المسألة الثالثة : ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية : الأول : التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين. الثاني : أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم. وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٢
٢٢٤
اعلم أن قوله :﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا﴾ أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة. وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول، وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى، فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث الله تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لا شك أن (أن) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر / بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة الجواب : أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم، فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعاً له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير، وبقالبه مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني : أن إبراهيم لما لم يشرك بالله فكيف قال أن لا تشرك بي الجواب : المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكاً، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت.


الصفحة التالية
Icon