المسألة الثالثة : بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة".
المسألة الرابعة : إنما قال :﴿يَأْتُوكَ رِجَالا﴾ لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجاً فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه.
أما قوله :﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله :﴿وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله :﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُمْ﴾ واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا. وهي أن يتجرو في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً، وهو الأولى.
المسألة الثانية : إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٤
المسألة الثالثة : كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، قال القفال : وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلباً لمرضاة الله تعالى، واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته.
المسألة الرابعة : أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر، وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
أما قوله :﴿بَهِيمَةُ الانْعَـامِ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
أما قوله تعالى :﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعاً على الفقراء، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع، وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب. ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى :﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآاـاِسَ الْفَقِيرَ﴾ ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعاً، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٢٤
أما قوله :﴿وَأَطْعِمُوا الْبَآاـاِسَ الْفَقِيرَ﴾ فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقيرة الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر. قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
أما قوله :﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. والمراد ههنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العامة، والمراد من القضاء إزالة التفث، وقال القفال قال نفطويه : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله :﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ ؟
فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك/ ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي.


الصفحة التالية
Icon