وههنا بحث، وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد صلى الله عليه وسلّم وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم. قال الحسن : السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين : أحدهما : أن عند الله حد(اً) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه والثاني : أن الله لا يعذب قوماً حتى يعلم أن أحداً منهم لا يؤمن، فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحداً منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا اسْتَيْـاَسَ الرُّسُلُ﴾ (يوسف : ١١٠) أي من إجابة القوم، وقوله لنوح :﴿وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا﴾ (هود : ٣٦) وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله :﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ (هود : ٦٦) أي بالعذاب نجينا هوداً، واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة، فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير ؟
قلنا إذا كان رادعاً لغيره وصادعاً له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيراً.
أما قوله :﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : المراد من قوله :﴿فَكَأَيِّن﴾ فكم على وجه التكثير، وقيل أيضاً معناه، ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر، فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالاً وإن لم يذكر مفصلاً.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة ﴿أَهْلَكْنَـاهَآ ﴾ بالنون، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى ﴿مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾.
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَهْلَكْنَـاهَآ ﴾ أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية، فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٣٤
أما قوله وهي :﴿خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ ففيه سؤالان :
السؤال الأول : ما معنى هذه اللفظة ؟
فقال صاحب الكشاف : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من / خوى المنزل إذا خلا من أهله، فإن فسرنا الخاوي بالساقط، كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها، قال ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها، بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلاً للاعتبار.
السؤال الثاني : ما محل هاتين الجملتين من الإعراب. أعني ﴿وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ الجواب : الأولى : في محل النصب على الحال والثانية : لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل. قال أبو مسلم : المعنى فكأين من قرية أهلكناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية.
أما قوله :﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الحسن ﴿مُّعَطَّلَةٍ﴾ من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان : أحدهما : أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني : أنه المرفوع المطول، والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف، وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهراً خالياً بلا ساكن، وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر. وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى :﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ﴾ (الصافات : ١٣٧) والله أعلم بالصواب.


الصفحة التالية
Icon