أما قوله تعالى :﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ ففيه قولان : أحدهما : المراد منه الصنم والذباب فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة / المطلوب الثاني : أن الطالب من عبد الصنم/ والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها، وهذا أقرب لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل هو على سبيل التقدير، أما ههنا فعلى سبيل التحقيق لكن المجاز فيه حاصل لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفاً، لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى، وههنا وجه ثالث وهو أن يكون معنى قوله :﴿ضِعْفَ﴾ لا من حيث القوة ولكن لظهور قبح هذا المذهب، كما يقال للمرء عند المناظرة : ما أضعف هذا المذهب وما أضعف هذا الوجه.
أما قوله :﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾ أي ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية، وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام، وهو ﴿قَوِىٌّ﴾ لا يتعذر عليه فعل شيء و﴿عَزِيزٌ﴾ لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك. قال الكلبي في هذه الآية ونظيرها في سورة الأنعام : إنها نزلت في جماعة من اليهود وهم مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف وكعب بن أسد وغيرهم لعنهم الله، حيث قالوا إنه سبحانه لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها فاستلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم ونزل قوله تعالى :﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾. واعلم أن منشأ هذه الشبهات هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال، أعني الغرض والداعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما تقوله المعتزلة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله، فهو سبحانه جبار النعت عزيز الوصف فالأوهام لا تصوره والأفكار لا تقدره والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحده، صمدي الذت سرمدي الصفات.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٨
اعلم أنه سبحانه لما قدم ما يتعلق بالإلهيات ذكر ههنا ما يتعلق بالنبوات، قال مقاتل : قال الوليد ابن المغيرة : أأنزل عليه الذكر من بيننا ؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كلمة ﴿مِنْ﴾ للتبعيض فقوله :﴿اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا﴾ (فاطر : ١) يقتضي أن تكون الرسل بعضهم لا كلهم، وقوله :﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلا﴾ يقتضي كون كلهم رسلاً فوقع التناقض والجواب : جاز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة / كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة صلوات الله عليهم، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض فزال التناقض.
السؤال الثاني : قال في سورة الزمر :﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ (الزمر : ٤) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية دلت على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فيلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد والجواب : أن قوله :﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى ﴾ يدل على أن كل ولد مصطفى، ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً، وفي هذه الآية وجه آخر، وهو أن المراد تبكيت من عبد غير الله تعالى من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان. وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة، بل لأن الله تعالى اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بين أنهم ما قدروا الله حق قدره أن جعلوا الملائكة معبودين مع الله، ثم بين سبحانه بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُا بَصِيرٌ﴾ أنه يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون، ولذلك أتبعه بقوله :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ فقال بعضهم ما تقدم في الدنيا وما تأخر، وقال بعضهم :﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أمر الآخرة، ﴿وَمَا خَلْفَهُم﴾ أمر الدنيا، ثم أتبعه بقوله :﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ فقوله :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ إشارة إلى العلم التام وقوله :﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨
٢٥٨
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها : تعيين المأمور وثانيها : أقسام المأمور به وثالثها : ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها : تأكيد ذلك التكليف.


الصفحة التالية
Icon