أما النوع الأول : وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وفيه قولان : أحدهما : المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمناً أو كافراً، لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك والثاني : أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولاً : فلأن اللفظ صريح فيه، وأما ثانياً : فلأن قوله بعد ذلك ﴿هُوَ اجْتَبَـاكُمْ﴾ وقوله :﴿هُوَ سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ وقوله :﴿وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين. أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجباً على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين ؟
لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها. ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريق لهم في ذلك الإقرار والتخصيص.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨
أما النوع الثاني : وهو المأمور به فقد ذكر الله أموراً أربعة : الأول : الصلاة وهو المراد من قوله :﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جارياً مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية الثاني : قوله :﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : اعبدوه ولا تعبدوا غيره وثانيها : واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات وثالثها : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود الثالث : قوله تعالى :﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير، لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات.
أما قوله تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة/ وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير / وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضاً مستورة "وكل ميسر لما خلق له" الرابع : قوله تعالى :﴿وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه ﴾ قال صاحب "الكشاف" ﴿فِى اللَّهِ﴾ أي في ذات الله، ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقاً وجداً ومنه ﴿حَقَّ جِهَادِه ﴾ وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال :﴿وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه ﴾ ؟
والجواب : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨


الصفحة التالية
Icon