السؤال الثاني : ما هذا الجهاد ؟
الجواب : فيه وجوه : أحدها : أن المراد قتال الكفار خاصة، ومعنى ﴿حَقَّ جِهَادِه ﴾ أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الإسم أو الغنيمة والثاني : أن يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ ﴿وَجَـاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه ﴾ في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله، فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين ؟
قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ : وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده ؟
فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال صدقت والثالث : قال ابن عباس : حق جهاده، لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع : قال الضحاك : واعملوا لله حق عمله والخامس : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس : قال عبدالله بن المبارك : حق جهاده، مجاهدة النفس والهوى. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك قال :"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف، فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد.
السؤال الثالث : هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن : ١٦) كما أن قوله :﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾ (آل عمران : ١٠٢) منسوخ بذلك ؟
الجواب : هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى :﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه، وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقاً حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة، ثم خففه الله بقوله :﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ.
النوع الثالث : بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة : الأول : قوله :﴿هُوَ اجْتَبَـاكُمْ﴾ ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته، فأي رتبة أعلى من هذا، وأي سعادة فوق هذا، ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٥٨
أما قوله تعالى :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً واجباً كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس ؟
فأجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة ؟
فقال ابن عباس رضي الله عنهما : بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الحرج في أصل اللغة ؟
الجواب : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم ؟
قال الضيق، وعن عائشة رضي الله عنها :"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال الضيق".
السؤال الثاني : ما المراد من الحرج في الآية ؟
الجواب : قيل هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع ذلك فليؤم، وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه. وأيضاً فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجاً منها إما بالتوبة أو بالكفارة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما "إنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس" وعن النبي صلى الله عليه وسلّم "إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما" وعن كعب : أعطى الله هذه الأمة ثلاثاً لم يعطهم إلا للأنبياء :"جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال أدعوني أستجب لكم".
السؤال الثالث : استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق، فقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب : لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلاً وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى القدمان زال السؤال.


الصفحة التالية
Icon