أما قوله :﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـافِلِينَ﴾ (المؤمنون : ١٧) ففيه وجوه : أحدها : ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا ﴾ (فاطر : ٤١) وثانيها : إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها : أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله :﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـافِلِينَ﴾ (المؤمنون : ١٧) يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر ورابعها : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ (الملك : ٣).
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٦٩
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل : إحداها : أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير. وثانيتها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئاً من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجود وثالثتها : تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب / والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها : تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها : تدل على جواز الحشر والنشر نظراً إلى صريح الآية ونظراً إلى أن الفاعل لما كان قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها : أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثاً.
النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٦٩
٢٧٠
اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولاً ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانياً.
أما قوله تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَا بِقَدَرٍ﴾ فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله :﴿وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات : ٢٢) وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها.
أما قوله تعالى :﴿بِقَدَرٍ﴾ فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.
أما قوله :﴿فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الارْضِ ﴾ قيل معناه جعلناه ثابتاً في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضاً القرآن.
أماقوله :﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِه لَقَـادِرُونَ﴾ أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب "الكشاف" وقوله :﴿عَلَى ذَهَابا بِه ﴾ من أوقع النكرات وأخرها للفصل. والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله :﴿قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعِين ﴾ (الملك : ٣٠) ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال :﴿فَأَنشَأْنَا لَكُم بِه جَنَّـاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ﴾ وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطباً ويابساً وقوله :﴿لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ أي في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله :﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ قال صاحب "الكشاف" يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون.


الصفحة التالية
Icon