المسألة الأولى : إنما قال :﴿فَقُلِ﴾ ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً لهم، فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
المسألة الثانية : قال قتادة علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ ﴾ (هود : ٤١) وعند ركوب الدابة ﴿سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ﴾ (الزخرف : ١٣) وعند النزول ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ (المؤمنون : ٢٩) قال الأنصاري : وقال لنبينا ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ (الإسراء : ٨٠) وقال :﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـانِ﴾ (النحل : ٩٨) كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٧
المسألة الثالثة : هذه مبالغة عظيمة في تقبيح صورتهم حيث أتبع النهي عن الدعاء لهم الأمر بالحمد على إهلاكهم والنجاة منهم كقوله تعالى :﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (الأنعام : ٤٥) وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه، فيصح أن يقول :﴿نَجَّـاـانَا﴾ من حيث جعله آمناً بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) ثم إنه سبحانه بعد أن أمره بالحمد على إهلاكهم أمره بأن يدعو لنفسه فقال :﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكًا﴾ وقرىء ﴿مُنزَلا﴾ بمعنى إنزالاً أو موضع إنزال كقوله ليدخلنهم مدخلاً يرضونه. واختلفوا في المنزل على قولين : أحدهما : أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك والثاني : أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلاً مباركاً والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة/ فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره. ثم بين سبحانه بقوله :﴿وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة، ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة نوح وقومه لآيات ودلالات وعبراً في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر فإن إظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين والطاعة من أعظم أنواع العبر.
أما قوله :﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ فيمكن أن يكون المراد، وإن كنا لمبتلين فيما قبل، ويحتمل أن يكون وإن كنا لمبتلين فيما بعد، وهذا هو الأقرب لأنه كالحقيقة في الاستقبال، وإذا حمل على ذلك احتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون المراد المكلفين في المستقبل أي فيجب فيمن كلفناه أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه وثانيها : أن يكون المراد لمعاقبين لمن سلك في تكذيب الأنبياء مثل طريقة قوم نوح وثالثها : أن يكون المراد كما نعاقب من كذب بالغرق وغيره فقد نمتحن بالغرق من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكي لا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.
القصة الثانية ـ قصة هود أو صالح عليهما السلام
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٨
اعلم أن هذه القصة هي قصة هود عليه السلام في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين واحتجوا عليه بحكاية الله تعالى قول هود عليه السلام :﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنا بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ (الأعراف : ٦٩) ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. وقال بعضهم المراد بهم صالح وثمود، لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، أما كيفية الدعوى فكما تقدم في قصة نوح عليه السلام وههنا سؤالات :
السؤال الأول : حق ﴿أُرْسِلَ﴾ أن يتعدى بإلى كأخواته التي هي وجه وأنفذ وبعث فلم عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أخرى كقوله تعالى :﴿كَذَالِكَ أَرْسَلْنَـاكَ فِى أُمَّةٍ﴾ ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ﴾ (الأعراف : ٩٤) ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا﴾ (المؤمنون : ٣٢) أي في عاد، وفي موضع آخر ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ (هود : ٥٠) ؟
الجواب : لم يعد بفي كما عدي بإلى ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعاً للإرسال وعلى هذا المعنى جاء بعث في قوله :﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا﴾ (الفرقان : ٥١).


الصفحة التالية
Icon