جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٨
السؤال الثاني : هل يصح ما قاله بعضهم أن قوله :﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك قال لهم مخوفاً مما هم عليه ﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذرتكم به ؟
الجواب : يجوز أن يكون موصولاً بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان. ثم اعلم أن الله تعالى حكى صفات أولئك القوم وحكى كلامهم، أما الصفات فثلاث هي شر الصفات : أولها : الكفر بالخالق سبحانه وهو المراد من قوله :﴿كَفَرُوا ﴾ وثانيها : الكفر بيوم القيامة وهو المراد من قوله :﴿وَكَذَّبُوا بِلِقَآءِ الاخِرَةِ﴾ وثالثها : الانغماس في حب الدنيا وشهواتها وهو المراد من قوله :﴿وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ﴾ أي نعمناهم فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو ﴿قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِه إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ (الأعراف : ٦٦)، قالوا ﴿مَا نَرَاـاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ (هود : ٢٧) وههنا مع الواو فأي فرق بينهما ؟
قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه ؟
فقيل له كيت وكيت، وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل. وأما شبهات القوم فشيئان : أولهما : قولهم :﴿مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾، وقد مر شرح هذه الشبهة في القصة الأولى وقوله :﴿مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ أي من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه وهو قوله :﴿وَ لئن أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ﴾ فجعلوا اتباع الرسول خسراناً، ولم يجعلوا عبادة الأصنام خسراناً، أي لئن كنتم أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها منفعة فذلك هو الخسران وثانيهما : أنهم طعنوا في صحة الحشر والنشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب إتيانه بذلك. أما الطعن في صحة الحشر فهو قولهم :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٨
﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَـامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم وهو قولهم ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ ثم أكدوا الشبهة بقولهم :﴿إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ ولم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر. فلذلك قالوا :﴿وَمَا نَحْنُ لَه بِمُؤْمِنِينَ﴾ ولما فرغوا من الطعن في صحة الحشر بنوا عليه الطعن في نبوته، فقالوا لما أتى بهذا الباطل فقد ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ثم لما قرروا الشبهة الطاعنة في نبوته قالوا :﴿وَمَا نَحْنُ لَه بِمُؤْمِنِينَ﴾ لأن القوم كالتبع لهم، واعلم أن الله تعالى ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أما الشبهة الأولى : فقد تقدم بيان ضعفها وأما الثانية : فلأنهم استبعدوا الحشر، ولا يستبعد الحشر لوجهين : الأول : أنه سبحانه لما كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر والثاني : وهو أنه لولا الإعادة لكن تسليط القوى على الضعيف في الدنيا ظلماً. وهو غير لائق بالحكيم على ما قرره سبحانه في قوله :﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى ﴾ (طه : ١٥) وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ثنى إنكم للتوكيد وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف، ومخرجون خبر عن الأول. وفي قراءة ابن مسعود :﴿وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَـامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ﴾ (المؤمنون : ٣٥).
المسألة الثانية : قرىء ﴿هَيْهَاتَ﴾ بالفتح والكسر، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف.
المسألة الثالثة : هي في قوله :﴿إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثم وضع هي موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليه ومنه (قول الشاعر) :
هي النفس ما حملتها تتحمل
والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة، ولأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٧٨


الصفحة التالية
Icon