اعلم أن ابن مريم هو عيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية بأن خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد في الصغر وأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأما مريم فقد جعلها الله تعالى آية لأنها حملته من غير ذكر. وقال الحسن تكلمت مريم في صغرها كما تكلم عيسى عليه السلام وهو قولها :﴿هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران : ٣٧) ولم تلقم ثدياً قط، قال القاضي إن ثبت ذلك فهو معجزة لزكريا عليه السلام لأنها لم تكن نبية، قلنا القاضي إنما قال ذلك لأن عنده الإرهاص غير جائز وكرامات الأولياء غير جائزة وعندنا هما جائزان فلا حاجة إلى ما قال، والأقرب أنه جعلهما آية بنفس الولادة لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعاً في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة والذي يدل على أن هذا التفسير أولى وجهان : أحدهما : أنه تعالى / قال :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً﴾ لأن نفس الإعجاز طهر فيهما لا أنه ظهر على يدهما وهذا أولى من أن يحمل على الآيات التي ظهرت على يده نحو إحياء الموتى وذلك لأن الولادة فيه وفيها آية فيهما وكذلك أن نطقا في المهد وما عدا ذلك من الآيات ظهر على يده لا أنه آية فيه الثاني : أنه تعالى قال آية ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتم إلا بمجموعهما أولى وذلك هو أمر الولادة لا المعجزات التي كان عيسى عليه السلام مستقلاً بها.
أما قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه ا ءَايَةً﴾ أي جعلنا مأواهما الربوة والربوة والرباوة في راءيهما الحركات الثلاث وهي الأرض المرتفعة، ثم قال قتادة وأبو العالية هي إيلياء أرض بيت المقدس، وقال أبو هريرة رضي الله عنه إنها الرملة. وقال الكلبي وابن زيد هي بمصر وقال الأكثرون إنها دمشق وقال مقاتل والضحاك هي غوطة دمشق، والقرار المستقر من (كل) أرض مستوية مبسوطة، وعن قتادة ذات ثمار وماء، يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. فنبه سبحانه على كمال نعمه عليها بهذا اللفظ على اختصاره. ثم في المعين قولان : أحدهما : أنه مفعول لأنه لظهوره يدرك بالعين من عانه إذا أدركه بعينه وقال الفراء والزجاج إن شئت جعلته فعيلاً من الماعون ويكون أصله من المعن والماعون فاعول منه قال أبو علي والمعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى والماعون ما سهل على معطيه، ثم قالوا وسبب الإيواء أنها فرت بإبنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بهما ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم، وههنا آخر القصص والله أعلم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٢
٢٨٤
اعلم أن ظاهر قوله :﴿لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم، فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه : أحدها : أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها : أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل، وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ (آل عمران : ١٧٣) وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمداً صلى الله عليه وسلّم بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط، بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها : وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا ؟
فقالت من شاة لي، ثم رده وقال : من أين هذه الشاة ؟
فقالت اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت : يا رسول الله لم رددته ؟
فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيباً ولا يعملوا إلا صالحاً.


الصفحة التالية
Icon