أما قوله تعالى :﴿مِنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ ففيه وجهان : الأول : أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني : أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها، فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم. واعلم أنه سبحانه كما قال لمرسلين ﴿ يَـا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ فقال للمؤمنين :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ﴾، واعلم أن تقديم قوله :﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ على قوله :﴿وَاعْمَلُوا صَـالِحًا ﴾ كالدلالة على أن العمل الصالح لا بد وأن يكون مسبوقاً بأكل الحلال، فأما قوله :﴿إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فهو تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان ذلك تحذيراً للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذيراً لغيرهم أولى.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٤
أما قوله :﴿وَإِنَّ هَـاذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ فقد فسرناه في سورة الأنبياء وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى. فإن قيل لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً ؟
قلنا المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر / من النساء إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا ههنا، ويدل على ذلك قوله :﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ فكأنه نبه بذلك على أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه فلا مدخل للشرائع، وإن اختلفت في ذلك.
المسألة الثانية : قرىء وإن بالكسر على الاستئناف وإن بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مرفوعة معها.
أما قوله تعالى :﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ﴾ فالمعنى فإن أمم الأنبياء عليهم السلام تقطعوا أمرهم بينهم وفي قوله :﴿فَتَقَطَّعُوا ﴾ معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين.
أما قوله ﴿زُبُرًا ﴾ فقرىء زبراً جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً وزبراً قطعاً استعيرت من زبر الفضة والحديد وزبراً مخففة الباء كرسل في رسل قال الكلبي ومقاتل والضحاك يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى.
أما قوله تعالى :﴿كُلُّ حِزْبا بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ فمعناه أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر، ولما ذكر الله تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد، وقال :﴿فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ﴾ حين حتى الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلّم يقول :"فدع هؤلاء الكفار في جهلهم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامراً ساتراً لعقولهم"، وعن علي عليه السلام :﴿بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ لَيَسْجُنُنَّه حَتَّى حِينٍ﴾ وذكروا في الحين وجوهاً : أحدها : إلى حين الموت وثانيها : إلى حين المعاينة وثالثها : إلى حين العذاب، والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام، والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة، وذلك يحصل إذا عرفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم، ويحصل أيضاً عند المحاسبة في الآخرة، ويحصل عند عذاب القبر والمساءلة فيجب أن يحمل على كل ذلك.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٤


الصفحة التالية
Icon