ولما كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أن تلك النعم كالثواب المعجل لهم على أديانهم، فبين سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك، فقال :﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ ﴾ قرىء يمدهم ويسارع بالياء والفاعل هو الله سبحانه وفي المعنى وجهان : أحدهما : أن هدا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم في المعاصي، واستجراراً لهم في زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل للاستدراك لقوله :﴿أَيَحْسَبُونَ﴾ يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في ذلك، أهو استدراج أم مسارعة في الخير، وهذه الآية كقوله :﴿وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ ﴾ (التوبة : ٨٥) روي عن يزيد بن ميسرة : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء "أيفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني" ثم تلا :﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ وعن الحسن : لما أتى عمر بسوار كسرى فأخذه ووضعه في يد سراقة فبلغ منكبه. فقال عمر اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة / والسلام، كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه نظراً. ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك، اللهم لا يكن ذلك مكراً منك بعمر. ثم تلا :﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ الوجه الثاني : وهو أنه سبحانه إنما أعطاهم هذه النعم ليكونوا فارغي البال، متمكنين من الاشتغال بكلف الحق، فإذا أعرضوا عن الحق والحالة هذه، كان لزوم الحجة عليهم أقوى، فلذلك قال :﴿بَل لا يَشْعُرُونَ﴾.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٤
٢٨٥
اعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله :﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِه مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ ﴾ ثم قال :﴿بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة :
الصفة الأولى : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف، فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب، والمعنى الذين هم من عذاب ربهم مشفقون، وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة، والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته، جادون في طلب مرضاته. والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية، كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلاً، ومن عقابة آجلاً، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي.
الصفة الثانية : قوله :﴿وَالَّذِينَ هُم بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ واعلم أن آيات الله تعالى هي المخلوقات الدالة على وجوده، والإيمان بها هو التصديق بها، والتصديق بها إن كان بوجودها فذلك معلوم بالضرورة، وصاحب هذا التصديق لا يستحق المدح، وإن كان بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع فذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر، وصاحبه لا بد وأن يصير عارفاً / بوجود الصانع وصفاته، وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهراً وذلك هو الإيمان.
الصفة الثالثة : قوله :﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى لأن ذلك داخل في قوله :﴿وَالَّذِينَ هُم بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ بل المراد منه نفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصاً في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله تعالى وطلب رضوانه والله أعلم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٥
الصفة الرابعة : قوله :﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى : كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين : كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل، وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره، فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهداً في أن يوفيها حقها في الأداء. وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت :﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى ؟
فقال عليه الصلاة والسلام :"لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله تعالى".
واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي.
والصفة الثانية : دلت على ترك الرياء في الطاعات.


الصفحة التالية
Icon