والصفة الثالثة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها/ فإن قيل : أفتقولون إن قوله :﴿وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ يرجع إلى يؤتون، أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال ؟
قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال، إذ المراد أن يؤدي ذلك على وجل من تقصيره، فيكون مبالغاً في توفيته حقه، فأما إذا قرىء ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا ﴾ فالقول فيه أظهر، إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل، فإنهم يقدمون عليه مع الوجل، ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال، وأن هناك لا تنفع الندامة، فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك. ثم إنه سبحانه لما ذكر هذه الصفات للمؤمنين المخلصين قال بعده :﴿ أولئك يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ﴾ وفيه وجهان : أحدهما : أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. والثاني : أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام، كما قال :﴿فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾ (آل عمران : ١٤٨). ﴿وَوَهَبْنَا لَه ا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ﴾ (العنبكوت : ٢٧) لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين وقرىء يسرعون في الخيرات.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٥
أما قوله :﴿وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ﴾ فالمعنى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها أو وهم لها سابقون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. والمعنى وهم لها كما يقال أنت لها وهي لك، ثم قال سابقون أي وهم سابقون.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٥
٢٨٧
اعلم أنه سبحانه لما ذكر كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العباد فالأول : قوله :﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ وفي الوسع قولان : أحدهما : أنه الطاقة عن المفضل والثاني : أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمى وسعاً لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق، فبين أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً ومن لم يستطع جالساً فليوم إيماء لأنا لا نكلف نفساً إلا وسعها، واستدلت المعتزلة به في نفي تكليف ما لا يطاق وقد تقدم القول فيه الثاني : قوله :﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ ونظيره قوله ﴿هَـاذَا كِتَـابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ﴾ (الجاثية : ٢٩) وقوله :﴿لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ (الكهف : ٤٩).
واعلم أنه تعالى شبه الكتاب بمن يصدر عنه البيان فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقاً، فإن قيل هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه / سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل. فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب ؟
قلنا يفعل الله ما يشاء وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
وأما قوله :﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ فنظيره قوله :﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف : ٤٩) فقالت المعتزلة الظلم إما أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب أو بأن يعذب على ما لم يعلم أو بأن يكلفهم ما لا يطيقون فتكون الآية دالة على كون العبد موجداً لفعله وإلا لكان تعذيبه عليه ظلماً ودالة على أنه سبحانه لا يكلف ما لا يطاق الجواب : أنه لما كلف أبا لهب أن يؤمن، والإيمان يقتضي تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أن أبا لهب لا يؤمن فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فيلزمكم كل ما ذكرتموه.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٧


الصفحة التالية
Icon