وأما قوله تعالى :﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا﴾ ففيه قولان : أحدهما : أنه راجع إلى الكفار وهم الذين يليق بهم قوله :﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا﴾ ولا يليق ذلك بالمؤمنين إذ المراد في غمرة من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين ولهم أي لهؤلاء الكفار أعمال من دون ذلك أي أعمال سوى ذلك أي سوى جهلهم وكفرهم ثم قال بعضهم أراد أعمالهم في الحال، وقال بعضهم بل أراد المستقبل وهذا أقرب لأن قوله :﴿هُمْ لَهَا عَـامِلُونَ﴾ إلى الاستقبال أقرب وإنما قال :﴿هُمْ لَهَا عَـامِلُونَ﴾ لأنها مثبتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار لما سبق لهم من الله من الشقاوة القول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم :﴿وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ﴾ يحفظ أعمالهم ﴿يَنطِقُ بِالْحَقِّا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا﴾ هو أيضاً وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضاً من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه إما أعمالاً قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل، ثم إنه سبحانه رجع بقوله :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ﴾ إلى وصف الكفار.
واعلم أن قول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصاً، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما قد يحذر بذلك من الشر، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر. فإن قيل فما المراد بقوله من هذا، وهو إشارة إلى ماذا ؟
قلنا هو إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم مع أنهما مستوليان على قلوبهم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٧
أما قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ﴾ فقال صاحب "الكشاف" حتى هذه هي التي / يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أنه لا شبهة (في) أن الضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار لأن العذاب لا يليق إلا بهم وفي هذا العذاب وجهان : أحدهما : أراد بالعذاب ما نزل بهم يوم بدر والثاني : أنه عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أن المنعمين منهم إذا نزل بهم العذاب يجأرون أي يرتفع صوتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت ﴿لا تَجْـاَرُوا الْيَوْمَا إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ﴾ فلا يدفع عنكم ما يريد إنزاله بكم، دل بذلك سبحانه على أنهم سينتهون يوم القيامة إلى هذه الدرجة من الحسرة والندامة وهو كالباعث لهم في الدنيا على ترك الكفر والإقدام على الإيمان والطاعة فإنهم الآن ينتفعون بذلك.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٧
٢٨٨
اعلم أنه سبحانه لما بين فيما قبل أنه لا ينصر أولئك الكفار أتبعه بعلة ذلك وهي أنه متى تليت آيات الله عليهم أتوا بأمور ثلاثة : أحدها : أنهم كانوا على أعقابهم ينكصون وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد وهو قوله :﴿فَكُنتُمْ عَلَى ا أَعْقَـابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ أي تنفرون عن تلك الآيات وعمن يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه وثانيها : قوله :﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِه ﴾ والهاء / في به إلى ماذا تعود ؟
فيه وجوه : أولها : إلى البيت العتيق أو الحرم كانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وإن لم يكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به وثانيها : المراد مستكبرين بهذا التراجع والتباعد وثالثها : أن تتعلق الباء بسامراً أي يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وهذا هو الأمر الثالث الذي يأتون به عند تلاوة القرآن عليهم، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويهجرون، والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرىء سمراً وسامراً يهجرون من أهجر في منطقه إذا أفحش والهجر بالفتح الهذيان والهجر بالضم الفحش أو من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هدى. ثم إنه سبحانه لما وصف حالهم رد عليهم بأن بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة : أحدها : أن لا يتأملوا في دليل ثبوته وهو المراد من قوله :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ﴾
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٢٨٨


الصفحة التالية
Icon