المسألة الثانية : قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم، قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى ؟
فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه : أحدها : أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها : أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني : أن أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه، لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل ؟
فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني : لهم في الجواب قولهم :﴿وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ﴾ وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا خلق الداعي إلى الضلال، ثم إن القوم لما أوردوا هذين / العذرين، قال لهم سبحانه :﴿اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل. قال القاضي في قوله :﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف/ فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم، قال لهم :﴿اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠٠
أما قوله :﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ﴾ فالمعنى : أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم ؟
قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.
أما قوله :﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ﴾ فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه.
أما قوله :﴿وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ فليس هذا نهياً لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة ﴿رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا﴾ (السجدة : ١٢) فيجابون ﴿حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى﴾ (السجدة : ١٣) فينادون ألف سنة ثانية ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ فيجابون ﴿ذَالِكُم بِأَنَّه ا إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَه كَفَرْتُمْ ﴾ (غافر : ١٢) فينادون ألف ثالثة ﴿وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ (الزخرف : ٧٧) فيجابون ﴿إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ﴾ (الزخرف : ٧٧) فينادون ألفاً رابعة ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا﴾ فيجابون ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾ (إبراهيم : ٤٤) فينادون ألفاً خامسة ﴿أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا﴾ (فاطر : ٣٧) فيجابون ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم﴾ (فاطر : ٣٧) فينادون ألفاً سادسة ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ (المؤمنون : ٩٩) فيجابون ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ﴾ ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله :﴿إِنَّه كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠٠


الصفحة التالية
Icon