فوصف تعالى أحد ما لأجه عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين. وفي حرف أبي ﴿إِنَّه كَانَ فَرِيقٌ﴾ بالفتح بمعنى لأنه. وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى. وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية. قال مقاتل : إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزواً حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله :﴿وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال :﴿إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآاـاِزُونَ﴾ / قرأ حمزة والكسائي أنهم بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت، ويجوز أن يكون نصباً بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠٠
٣٠١
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" في مصاحف أهل الكوفة ﴿قَالَ﴾ وهو ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، و﴿قُلْ﴾ في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام وهو ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
المسألة الثانية : الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلاً ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون سألهم ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ﴾ تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه، فليس الغرض السؤال بل الغرض ما ذكرنا. فإن قيل فكيف يصح في جوابهم أن يقولوا :﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ ولا يقع من أهل النار الكذب قلنا لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا :﴿قَالُوا لَبِثْنَا﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين وقيل مرادهم بقولهم :﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من أليم العذاب والله أعلم.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن السؤال عن أي لبث وقع، فقال بعضهم لبثهم إحياؤهم في / الدنيا ويكون المراد أنهم أمهلوا حتى تمكنوا من العلم والعمل فأجابوا بأن قدر لبثهم كان يسيراً بناء على أن الله تعالى أعلمهم أن الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار، وهذا القائل احتج على قوله بأنهم كانوا يزعمون أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى في النار وعذبوا سألوا عن ذلك توبيخاً لأنه إلى التوبيخ أقرب، وقال آخرون بل المراد اللبث في حال الموت، واحتجوا على قولهم بأمرين : الأول : أن قوله في الأرض يفيد الكون في القبر ومن كان حياً فالأقرب أن يقال إنه على الأرض وهذا ضعيف لقوله :﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ (الأعراف : ٥٦)، الثاني : قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ (الروم : ٥٥) ثم بين سبحانه أنهم كذبوا في ذلك وأخبر عن المؤمنين قولهم :﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ (الروم : ٥٦).
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٠١
المسألة الرابعة : احتج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال قوله :﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ﴾ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون :﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ والجواب : من وجهين : أحدهما : أن الجواب لا بد وأن يكون بحسب السؤال، وإنما سألوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة، وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر والثاني : يحتمل أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فيصح أن يكون جوابهم ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ عند أنفسنا.


الصفحة التالية
Icon