وهذا من باب الزواجر، والمعنى هلا أتوا على ما ذكروه بأربعة شهداء يشهدون على معاينتهم فيما رموها به ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ﴾ (النور : ١٣) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا، فأولئك عند الله أي في حكمه هم الكاذبون، فإن قيل : أليس إذا لم يأتوا بالشهداء فإنه يجوز كونهم صادقين كما يجوز كونهم كاذبين فلم جزم بكونهم كاذبين ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن المراد بذلك الذين رموا عائشة خاصة وهم كانوا عند الله كاذبين الثاني : المراد فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب، والقاذف إن لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره فلما كان شأنه شأن الكاذب في الزجر لا جرم أطلق عليه لفظ الكاذب مجازاً.
النوع الثالث
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٢
٣٤٣
وهذا من باب الزواجر أيضاً، ولولا ههنا لامتناع الشيء لوجود غيره، ويقال أفاض في الحديث واندفع وخاض، وفي المعنى وجهان : الأول : ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك والثاني : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والآخرة معاً، فيكون فيه تقديم وتأخير، والخطاب للقذفة وهو قول مقاتل، وهذا الفضل هو حكم الله تعالى من تأخيره العذاب وحكمه بقبول التوبة لمن تاب.
النوع الرابع
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٣
٣٤٤
وهذا أيضاً من الزواجر قال صاحب "الكشاف" إذ ظرف لمسكم أو لأفضتم ومعنى تلقونه يأخذه بعضكم من بعض يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه ومنه قوله تعالى :﴿فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ﴾ (البقرة : ٣٧) وقرىء على الأصل تتلقونه وإتلقونه بإدغام الذال في التاء وتلقونه من لقيه بمعنى لفقه وتلقونه من إلقائه بعضهم على بعض وتلقونه، وتألقونه من الولق والألف وهو الكذب، وتلقونه محكية عن عائشة، وعن سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه، وكان أبوها يقرأ بحرف عبدالله بن مسعود، واعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها أحدها : تلقي الإفك بألسنتهم وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له ما وراءك ؟
فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة وذلك من العظائم وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم فأما الذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عما علم كذبه في الحرمة، ونظيره قوله :﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾ (الإسراء : ٣٦) فإن قيل ما معنى قوله :﴿بِأَفْوَاهِكُم﴾ والقول لا يكون إلا بالفم ؟
قلنا معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه باللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به، كقوله :﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ﴾ (آل عمران : ١٦٧) وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك وهو عظيم من العظائم، ويدل على أمور ثلاثة : الأول : يدل على أن القذف من الكبائر لقوله :﴿وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ الثاني : نبه بقوله :﴿وَتَحْسَبُونَه هَيِّنًا﴾ على أن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمها من حيث جهل كونها عظيماً، / الثالث : الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، إذ لا يأمن أنه من الكبائر، وقيل لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
النوع الخامس
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٤
٣٤٥


الصفحة التالية
Icon