وهذا من باب الآداب، أي هلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وإنما وجب عليهم الامتناع منه لوجوه : أحدها : أن المقتضى لكونهم تاركين لهذا الفعل قائم وهو العقل والدين، ولم يوجد ما يعارضه فوجب أن يكون ظن كونهم تاركين للمعصية أقوى من ظن كونهم فاعلين لها، فلو أنه أخبر عن صدور المعصية لكان قد رجح المرجوح على الراجح وهو غير جائز وثانيها : وهو أنه يتضمن إيذاء الرسول وذلك سبب للعن لقوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ﴾ (الأحزاب : ٥٧) وثالثها : أنه سبب لإيذاء عائشة وإيذاء أبويها ومن يتصل بهم من غير سبب عرف إقدامهم عليه، ولا جناية عرف صدورها عنهم، وذلك حرام ورابعها : أنه إقدام على ما يجوز أن يكون سبباً للضرر مع الاستغناء عنه، والعقل يقتضي التباعد عنه لأن القاذف بتقدير كونه صادقاً لا يستحق الثواب على صدقه بل يستحق العقاب لأنه أشاع الفاحشة، وبتقدير كونه كاذباً فإنه يستحق العقاب العظيم، ومثل ذلك مما يقتضي صريح العقل الاحتراز عنه وخامسها : أنه تضييع للوقت بما لا فائدة فيه، وقال عليه الصلاة والسلام :"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وسادسها : أن في إظهار محاسن الناس وستر مقابحهم تخلقاً بأخلاق الله تعالى، وقال عليه السلام :"تخلقوا بأخلاق الله" فهذه الوجوه توجب على العاقل أنه إذا سمع القذف أن يسكت عنه وأن يجتهد في الاحتراز عن الوقوع فيه، فإن قيل كيف جاز الفصل بين لولا وبين قلتم بالظرف ؟
قلنا الفائدة فيه أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به.
أما قوله :﴿سُبْحَـانَكَ هَـاذَا بُهْتَـانٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه سؤالان :
السؤال الأول : كيف يليق سبحانك بهذا الموضع ؟
الجواب : من وجوه : الأول : المراد منه التعجب من عظم الأمر، وإنما استعمل في معنى التعجب لأنه يسبح الله عند رؤية العجيب من صانعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه الثاني : المراد تنزيه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة الثالث : أنه منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء الفرقة المفترين الرابع : أنه منزه عن أن لا يعاقب هؤلاء القذفة الظلمة.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٥
السؤال الثاني : لم أوجب عليهم أن يقولوا هذا بهتان عظيم مع أنهم ما كانوا عالمين بكونه كذباً قطعاً ؟
والجواب : من وجهين : الأول : أنهم كانوا متمكنين من العلم بكونه بهتاناً، لأن زوجة الرسول لا يجوز أن تكون فاجرة الثاني : أنهم لما جزموا أنهم ما كانوا ظانين له بالقلب كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذباً، ونظيره قوله :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ﴾ (المنافقون : ١).
النوع السادس
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٥
السؤال الثاني : لم أوجب عليهم أن يقولوا هذا بهتان عظيم مع أنهم ما كانوا عالمين بكونه كذباً قطعاً ؟
والجواب : من وجهين : الأول : أنهم كانوا متمكنين من العلم بكونه بهتاناً، لأن زوجة الرسول لا يجوز أن تكون فاجرة الثاني : أنهم لما جزموا أنهم ما كانوا ظانين له بالقلب كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذباً، ونظيره قوله :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ﴾ (المنافقون : ١).
النوع السادس
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٤٧
وهذا من باب الزواجر، والمعنى يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب وأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين، وقد دخل تحت ذلك من قال ومن سمع فلم ينكر، لأن حالهما سواء في أن فعلا ما لا يجوز وإن كان من أقدم عليه أعظم ذنباً، فبين أن الغرض بما عرفهم من هذه الطريقة أن لا يعودوا إلى مثل ما تقدم منهم وههنا مسائل :
المسألة الأولى : استدلت المعتزلة بقوله :﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ على أن ترك القذف من الإيمان وعلى أن فعل القذف لا يبقى معه الإيمان، لأن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط والجواب : هذا معارض بقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ (النور : ١١) أي منكم أيها المؤمنون فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الإيمان وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على التهييج في الإتعاظ والانزجار.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبه مثل ذلك في المستقبل وإن كان فيهم من لا يطيع، فمن هذا الوجه تدل على أنه تعالى يريد من كلهم الطاعة وإن عصوا، لأن قوله :﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا ﴾ معناه لكي لا تعودوا لمثله وذلك دلالة الإرادة والجواب : عنه قد تقدم مراراً.


الصفحة التالية
Icon