أما قوله :﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُه مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ (النور : ٢١) فقرأ يعقوب وابن محيصن ما زكى بالتشديد، واعلم أن الزكي من بلغ في طاعة الله مبلغ الرضا ومنه يقال زكى الزرع، فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى سمى زكياً، ولا يقال زكى إلا إذا وجد زكياً، كما لا يقال لمن ترك الهدى هداه الله تعالى مطلقاً، بل يقال هداه الله فلم يهتد، واحتج أصحابنا في مسألة المخلوق بقوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ﴾ (النور : ٢١) فقالوا التزكية كالتسويد والتحمير فكما أن التسويد تحصيل السواد، فكذا التزكية تحصيل الزكاء في المحل، قالت المعتزلة ههنا تأويلان : أحدهما : حمل التزكية على فعل الألطاف والثاني : حملها على الحكم بكون العبد زكياً، قال أصحابنا : الوجهان على خلاف الظاهر، ثم نقيم الدلالة العقلية على بطلانهما أيضاً أما الوجه الأول : فيدل على فساده وجوه : أحدها : أن فعل اللطف هل يرجح الداعي أو لا يرجحه فإن لم يرجحه ألبتة لم يكن به تعلق فلا يكون لطفاً، وإن رجحه فنقول المرجح لا بد وأن يكون منتهياً إلى حد الوجوب، فإنه مع ذلك القدر من الترجيح إما أن يمتنع وقوع الفعل عنده أو يمكن أو يجب، فإن امتنع كان مانعاً لا داعياً، وإن أمكن أن يكون وأن لا يكون، فكل ما يمكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، فليفرض تارة واقعاً وأخرى غير واقع، فامتياز وقت الوقوع عن وقت اللاوقوع، إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أو لا يتوقف، فإن توقف كان المرجح هو المجموع الحاصل بعد انضمام هذا القيد، فلا يكون الحاصل أولاً مرجحاً، وإن لم يتوقف كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع والآخر باللاوقوع ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال، وأما إن اللطف مرجحاً موجباً كان فاعل اللطف فاعلاً للملطوف فيه، فكان تعالى فاعلاً لفعل العبد الثاني : أنه تعالى قال :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ﴾ علق التزكية على المشيئة وفعل اللطف واجب، والواجب لا يتعلق بالمشيئة الثالث : أنه علق التزكية على الفضل والرحمة وخلق / الألطاف واجب فلا يكون معلقاً بالفضل والرحمة وأما الوجه الثاني : وهو الحكم بكونه زكياً فذلك واجب لأنه لو يحكم به لكان كذباً والكذب على الله تعالى محال، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة ؟
فثبت أن قوله :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ﴾ نص في الباب.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٣
أما قوله :﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فالمراد أنه يسمع أقوالكم في القذف وأقوالكم في إثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهيتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٣
٣٥٥
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبداً، قال المفسرون : نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيماً في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن على أحد منكم، فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب، فقال لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكت فقال قد كان ذلك تعجباً من قول حصان فلم يقبل عذره، وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذراً ولا فرجاً، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتاباً ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم الآية عليه فلما وصل إلى قوله :﴿أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي، وقد تجاوزت عما كان، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم، أما إذا عفا عنكم فمرحباً بكم، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم، وههنا مسائل :


الصفحة التالية
Icon