وأيضاً فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وثامنها : أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها : أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم، وهذا وأيضاً منقبة عظيمة وعاشرها : قوله :﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ وفيه وجوه : منها : أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى :﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ ﴾ (الحجرات : ١٣) ومنها : أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه، أما التقوى فلقوله تعالى :﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى﴾ (الليل : ١٧) وأما العفو فلقوله تعالى :﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ وحادي عاشرها : أنه سبحانه قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ﴾ (المائدة : ١٣) وقال في حق أبي بكر ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ﴾ فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها : قوله :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٥
﴿أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم، وأيضاً فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه/ ثم قوله :﴿يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلّم في قوله :﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح : ٢) ودليلاً على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفوراً له على الإطلاق ودليلاً على صحة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلّم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها : أنه سبحانه وتعالى لما قال :﴿أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً، والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لا بد وأن تكون في غاية التعظيم، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (الكوثر : ١) وجب أن تكون / العطية عظيمة، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلّم في هذه المنقبة أيضاً ورابع عشرها : أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خالياً عن المعصية، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار، ولو كان عاصياً لكان كذلك لقوله تعالى :﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَتَعَدَّ حُدُودَه يُدْخِلْهُ نَارًا خَـالِدًا فِيهَا﴾ (النساء : ١٤) وإذا ثبت أنه كان خالياً عن المعاصي فقوله :﴿يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر، فكأنه سبحانه قال والله أعلم :﴿أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٥


الصفحة التالية
Icon