لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضاً أقبلهم وإن رددتهم، فأنا أيضاً أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا، فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل : هذه الآية تقدم في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب : عنه من وجوه : أحدها : أن النهي لا يدل على وقوعه، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ ﴾ (الأحزاب : ٤٨) ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه، ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم وثانيها : هب أنه صدر عنه ذلك الحلف، فلم قلتم إنه كان معصية، وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصاً فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى الله عنه بقوله :﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾ لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك الأولى كأنه سبحانه قال لأبي بكر اللائق بفضلك وسعة همتك أن لا تقطع هذا فكان هذا إرشاداً إلى الأولى لا منعاً عن المحرم.
المسألة الثالثة : أجمعوا على أن المراد من قوله :﴿أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّه ﴾ مسطح لأنه كان قريباً لأبي بكر وكان من المساكين وكان من المهاجرين، واختلفوا في الذنب الذي وقع منه فقال بعضهم قذف كما فعله عبدالله بن أبي فإنه عليه الصلاة والسلام حده وأنه تاب عن ذلك/ وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان تاركاً للنكر ومظهراً للرضا، وأي الأمرين كان فهو ذنب.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان المحابطة وقالوا إنه سبحانه وصفه بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدل على أن ثواب كونه مهاجراً لم يحبط بإقدامه على القذف.
المسألة الخامسة : أجمعوا على أن مسطحاً كان من البدريين وثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام قال :"لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فكيف / صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدرياً ؟
والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه افعلوا ما شئتم من المعاصي فيأمر بها أو يقيمها لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم لو حملناه على ذلك لاقتضى زوال التكليف عنهم، ولأنه لو كان كذلك لما جاز أن يحد مسطح على ما فعل ويلعن، فوجب حمله على أحد أمرين : الأول : أنه تعالى اطلع على أهل بدر وقد علم توبتهم وإنابتهم فقال افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة الثاني : يحتمل أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٥٥
المسألة السادسة : العفو والصفح عن المسيء حسن مندوب إليه، وربما وجب ذلك ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفي، ألا ترى إل قوله :﴿أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ (النور : ٢٢) فعلق الغفران بالعفو والصفح وعنه عليه الصلاة والسلام :"من لم يقبل عذراً لمتنصل كاذباً كان أو صادقاً فلا يرد على حوضي يوم القيامة" وعنه عليه الصلاة والسلام :"أفضل أخلاق المسلمين العفو" وعنه أيضاً :"ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا أهل العفو، ثم تلا فمن عفا وأصلح فأجره على الله" وعنه عليه الصلاة والسلام أيضاً :"لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه".
المسألة السابعة : في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه.


الصفحة التالية
Icon