المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله، الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي يتزويجها، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزاً له تزويجها أيضاً بغير رضاها، لعموم الآية، قال أبو بكر الرازي قوله تعالى :﴿وَأَنكِحُوا الايَـامَى ﴾ لا يختص بالنساء دون الرجال على ما بينا فلما كان الاسم شاملاً للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء، وأيضاً فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلّم باستئمار البكر بقوله :"البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها" وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر، فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها والجواب : أما الأول فهو تخصيص للنص وهو لا يقدح في كونه حجة والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده أمره بخلاف المرأة، فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها في التزويج أظهر/ وأيضاً فلفظ الأيامى وإن تناول الرجال والنساء، فإذا أطلق لم يتناول إلا النساء، وإنما يتناول الرجال إذا قيد وأما الثاني : ففي تخصيص الآية بخبر الواحد كلام مشهور.
المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة رحمه الله العم والأخ يليان تزويج البنت الصغيرة، ووجه الاستدلال بالآية كما تقدم.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٧
المسألة الخامسة : قال الشافعي رحمه الله، الناس في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن كذلك، ولكن لا يجب أن ينكح، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته لما روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء، أما الذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له أن ينكح، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح، لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله : النكاح أفضل من التخلي للعبادة، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه : أحدها : قوله تعالى :﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ﴾ (آل عمران : ٣٩) مدح يحيى عليه السلام بكونه حصوراً والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن، ولا يقال هو الذي لا يأتي النساء مع العجز عنهن، لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز، وإذا ثبت أنه مدح في حق يحيى وجب أن يكون مشروعاً في حقنا لقوله تعالى :﴿ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ ولا يجوز حمل الهدى على الأصول لأن التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام :"استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة" ويتمسك أيضاً بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :"أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن" وثالثها : أن النكاح مباح لقوله عليه الصلاة والسلام :"أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح" ويحمل الأحب على الأصلح في الدنيا لئلا يقع التناقض بين كونه أحب وبين كونه مباحاً، والمباح ما استوى طرفاه في الثواب والعقاب، والمندوب ما ترجح وجوده على عدمه فتكون العبادة أفضل ورابعها : أن النكاح ليس بعبادة بدليل أنه يصح من الكافر والعبادة لا تصح منه، فوجب أن تكون العبادة أفضل منه لقوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات : ٥٦) والاشتغال بالمقصود أولى وخامسها : أن الله تعالى سوى بين التسري والنكاح ثم التسري مرجوح بالنسبة إلى العبادة ومساوى المرجوح مرجوح، فالنكاح مرجوح، وإنما قلنا إنه سوى بين التسري والنكاح لقوله تعالى :
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٧


الصفحة التالية
Icon