المسألة الأولى : الأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج. بل المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغني حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، وروي عن قدماء الصحابة ما يدل على أنهم رأوا ذلك وعداً، عن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وعن عمر وابن عباس مثله قال ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح، وشكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحاجة فقال :"عليك بالباءة" وقال طلحة بن مطرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع لكم في أخلاقكم ويزيد في مروءتكم، فإن قيل : فنحن نرى من كان غنياً فيتزوج فيصير فقيراً ؟
قلنا الجواب عنه من وجوه : أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه إِن شَآءَا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة : ٢٨) المطلق محمول على المقيد، وثانيها : أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يكون خاصاً في بعض المذكورين دون البعض وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون وثالثها : أن يكون المراد الغنى بالعفاف فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن الوقوع في الزنا.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٧
المسألة الثانية : من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم فتقتضي الآية بيان أن العبد قد يكون فقيراً وقد يكون غنياً، فإن دل ذلك على الملك ثبت أنهما يملكان، ولكن المفسرون تأولوه على الأحرار خاصة. فكأنهم قالوا هو راجع إلى الأيامى، أما إذا فسرنا الغنى بالعفاف فالاستدلال به على ذلك ساقط.
أما قوله :﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه، لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها، وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٧
٣٧٨
اعلم أنه سبحانه لما ذكر تزويج الحرائر والإماء، ذكر حال من يعجز عن ذلك، فقال :﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ﴾ أي وليجتهد في العفة، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه.
وأما قوله :﴿لا يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ فالمعنى لا يتمكنون من الوصول إليه، يقال لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه، قال الله تعالى :﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ والمراد به بالإجماع من لم يتمكن، ويقال في أحدنا هو غير واجد للماء وإن كان موجوداً، إذا لم يمكنه أن يشتريه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال، فبين سبحانه وتعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله، ثم يصل إلى بغيته من النكاح، فإن قيل أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح ؟
قلنا لكن من لم يجد المهر والنفقة، فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى والله أعلم.
الحكم التاسع
في الكتابة
اعلم أنه تعالى لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك، ليصيروا أحراراً فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار، فقال :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـابَ﴾ وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ﴾ مرفوع على الابتداء، أو منصوب بفعل مضمر يفسره فكاتبوهم، كقولك زيداً فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط.
المسألة الثانية : الكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه : أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع ومنه الكتيبة سميت بذلك لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض وتضم ماله إلى ماله وثانيها : يحتمل أن يكون اللفظ مأخوذاً من الكتاب ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي على نفسك أن تفي لي بذلك، أو كتبت لي كتاباً عليك بالوفاء بالمال وكتبت على العتق، وهذا ما ذكره الأزهري وثالثها : إنما سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير / مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ولكنه يقع مؤجلاً ليكون متمكناً من الاكتساب وغيره حين ما انقبضت يد السيد عنه، ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتابً لما يقع فيه من الأجل، قال تعالى :﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ (الرعد : ٣٨).
جزء : ٢٣ رقم الصفحة : ٣٧٨


الصفحة التالية
Icon