الزيغ في الأكثر وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار، فبالحري أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً، فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين وبهذا يظهر معنى قوله :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩
﴿فَـاَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا ﴾ (التغابن : ٦١) وقوله :﴿قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ (النساء : ١٧٤) ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ (النساء : ١٧٤) وإذا ثبت أن بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلّم تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية، فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال :﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا﴾ (الفرقان : ٦١) ووصف محمداً صلى الله عليه وسلّم بأنه سراج منير، إذا عرفت هذا فنقول ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة قال تعالى :﴿يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه ﴾ (النحل : ٢) وقال :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء : ١٩٣، ١٩٤) وقال :﴿قُلْ نَزَّلَه رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ (النحل : ١٠٢) وقال تعالى :﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى * عَلَّمَه شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ (النجم : ٤، ٥) والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء، لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب. ثم نقول ثبت أيضاً بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها / مفيدة، قال تعالى في وصف جبريل عليه السلام :﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ (التكوير : ٢١) وإذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بد وأن يكونوا تحت أمره وقال :﴿وَمَا مِنَّآ إِلا لَه مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الصافات : ١٦٤) وإذا ثبت هذا فالمفيد أولى بأن يكون نوراً من المستفيد للعلة المذكورة ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منها إلى حائط آخر نصب عليه مرآة أخرى ثم انعكس منها إلى طست مملوء من الماء موضوع على الأرض انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن، وثانياً في القمر، وثالثاً ما وصل إلى المرآة الأولى، ورابعاً ما وصل إلى المرآة الثانية، وخامساً ما وصل إلى الماء، وسادساً ما وصل إلى السقف، وكل ما كان أقرب إلى المنبع الأول فإنه أقوى مما هو أبعد منه فكذا الأنوار السماوية لما كانت مرتبة لا جرم كان نور المفيد أشد إشراقاً من نور المستفيد، ثم تلك الأنوار لا تزال تكون مترقية حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد من قوله سبحانه :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩


الصفحة التالية
Icon