المسألة الحادية عشرة : قال الجبائي دلت الآية على أن كل من جهل فمن قبله أتى وإلا فالأدلة واضحة ولو نظروا فيها لعرفوا، قال أصحابنا هذه الآية صريح مذهبنا فإنه سبحانه بعد أن / بين أن هذه الدلائل بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال :﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ ﴾ يعني وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان ولا يمكن أن يكون المراد من قوله :﴿يَهْدِى اللَّهُ﴾ إيضاح الأدلة والبيانات لأنا لو حملنا النور على إيضاح الأدلة لم يجز حمل الهدى عليه أيضاً، وإلا لخرج الكلام عن الفائدة، فلم يبق إلا حمل الهدى ههنا على خلق العلم أجاب أبو مسلم بن بحر عنه من وجهين : الأول : أن قوله :﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ ﴾ محمول على زيادات الهدى الذي هو كالضد للخذلان الحاصل للضال الثاني : أنه سبحانه يهدي لنوره الذي هو طريق الجنة من يشاء وشبهه بقوله :﴿يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ﴾ (الحديد : ١٢) وزيف القاضي عبد الجبار هذين الجوابين أما الأول : فلأن الكلام المتقدم هو في ذكر الآيات المنزلة فإذا حلمناه على الهدى دخل الكل فيه وإذا حملناه على الزيادة لم يدخل فيه إلا البعض، وإذا حمل على طريق الجنة لا يكون داخلاً فيه أصلاً إلا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ولما زيف هذين الجوابين/ قال الأولى أن يقال إنه تعالى هدى بذلك البعض دون البعض وهم الذين بلغهم حد التكليف.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩
واعلم أن هذا الجواب أضعف من الجوابين الأولين، لأن قوله :﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِه مَن يَشَآءُ ﴾ يفهم منه أن هذه الآيات مع وضوحها لا تكفي، وهذا لا يتناول الصبي والمجنون فسقط ما قالوه.
المسألة الثانية عشرة : قوله تعالى :﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَـالَ لِلنَّاسِ ﴾ والمراد للمكلفين من الناس وهو النبي ومن بعث إليه، فإنه سبحانه ذكر ذلك في معرض النعمة العظيمة، واستدلت المعتزلة به فقالوا إنما يكون ذلك نعمة عظيمة لو أمكنهم الانتفاع به، ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع به، وجوابه ما تقدم، ثم بين أنه سبحانه ﴿بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ وذلك كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٣٩٩
٤٠١
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى :﴿فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ﴾ يقتضي محذوفاً يكون فيها وذكروا فيه وجوه : أحدها : أن التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله وهو اختيار كثير من المحققين، اعترض أبو مسلم بن بحر الأصفهاني عليه من وجهين : الأول : أن المقصود من ذكر المصباح المثل وكون المصباح في بيوت أذن الله لا يزيد في هذا المقصود لأن ذلك لا يزيد المصباح إنارة وإضارة الثاني : أن ما تقدم ذكره فيه وجوه تقتضي كونه واحداً كقوله :﴿كَمِشْكَـاوةٍ﴾ وقوله :﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ وقوله :﴿فِى زُجَاجَةٍ ﴾ وقوله :﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ﴾ (النور : ٣٥) ولفظ البيوت جمع ولا يصح كون هذا الواحد في كل البيوت والجواب عن الأول أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل وعن الثاني : أنه لما كان القصد بالمثل هو الذي له هذا الوصف فيدخل تحته كل كمشكاة فيها مصباح في زجاجة تتوقد من الزيت، وتكون الفائدة في ذلك أن ضوأها يظهر في هذه البيوت بالليالي عند الحاجة إلى عبادة الله تعالى، ولو أن رجلاً قال الذي يصلح لخدمتي رجل يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته لكان وإن ذكره بلفظ الواحد فالمراد النوع فكذا ما ذكره الله سبحانه في هذه الآية وثانيها : التقدير توقد من شجرة مباركة في بيوت أذن الله أن ترفع وثالثها : وهو قول / أبي مسلم أنه راجع إلى قوله :﴿وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ (النور : ٣٤) أي ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم في بيوت أذن الله أن ترفع، ويكون المراد بالذين خلوا الأنبياء والمؤمنين والبيوت المساجد، وقد اقتص الله أخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذكر أماكنهم فسماها محاريب بقوله :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٠١


الصفحة التالية
Icon