السؤال الثاني : احتج بعض أصحابنا بقوله :﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْـاًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال : إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً، وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد، فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً، أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى. وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب، ولا يكون ذلك إلا لله تعالى، ثم قال : وقد قال تعالى :﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ (الأعراف : ١٩٥) في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد ؟
فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم، وقد قال تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ (المؤمنون : ١٤) هذا كله كلام الكعبي والجواب : قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد، قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير، والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان، فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في / العبد مجازاً في الله تعالى، فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد ؟
أما قوله تعالى :﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته. وأما قوله تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ فقد تقدم الكلام عليه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٥
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين : أحدهما أنهم ليسوا بخالقين، والثاني أنهم مخلوقون، والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهاً معبوداً.
السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على البعث ؟
الجواب : نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة، فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٥
٤٣٩
اعلم أنه سبحانه تكلم أولاً في التوحيد، وثانياً في الرد على عبدة الأوثان، وثالثاً في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة، وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم الشبهة الأولى : قولهم :﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ وأعانه عليه قوم آخرون، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُه بَشَرٌ ﴾ (النحل : ١٠٣) واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه، ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى، ثم ههنا بحثان :
الأول : قال أبو مسلم : الافتراء افتعال من فريت، وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم، فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت، ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه.
البحث الثاني : قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ﴾ يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار (غلام عامر) بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتعهدهم، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال. واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله :﴿فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا﴾ وفيه أبحاث :
الأول : أن هذا القدر إنما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة، لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا، ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها، ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم، لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز، ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال، ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد، فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله :﴿فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا﴾.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٩
البحث الثاني : قال الكسائي : قوله تعالى :﴿فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا﴾ أي أتوا ظلماً وكذباً وهو كقوله :﴿لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْـاًا إِدًّا﴾ فانتصب بوقوع المجيء عليه، وقال الزجاج : انتصب بنزع الخافض، أي جاءوا بالظلم والزور.