البحث الثالث : أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور/ أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه، وقال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه، والزور كذبهم عليهم.
الشبهة الثانية لهم : قوله تعالى :﴿وَقَالُوا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ وفيه أبحاث :
البحث الأول : الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار، جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة ﴿اكْتَتَبَهَا﴾ انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامراً ويساراً وجبراً، ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك ﴿فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ﴾ أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب.
أما قوله :﴿بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة.
البحث الثاني : قال الحسن قوله :﴿فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ كلام الله ذكره جواباً عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالاً بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم، وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه : أحدها : شدة تعلق هذا الكلام بما قبله، فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه وثانيها : أن هذا هو المراد بقولهم :﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ﴾ وثالثها : أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ قال صاحب "الكشاف"، وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على ﴿الاوَّلِينَ﴾، وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِا إِنَّه كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ وفيه أبحاث :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٩
البحث الأول : في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة ؟
وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه، فلهذا قال :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه : أحدها : أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثانيها : أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثالثها : أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢) ورابعها : اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد، وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات وخامسها : اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل / المعلومات، فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله :﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ﴾.
البحث الثاني : اختلفوا في المراد بالسر، فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب/ وقال أبو مسلم : المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى :﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ (الحاقة : ٤٤) وقال آخرون : المعنى أنه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبراءته مما تتهمونه به، وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه.
البحث الثالث : إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين : الأول : قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفوراً رحيماً غير مستعجل في العقوبة الثاني : أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفوراً رحيماً يمهل ولا يعجل.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٣٩


الصفحة التالية
Icon