المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله :﴿قُلْ أَذَالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة، فإن قيل : كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر ؟
قلنا هذا يحسن في معرض التفريع، كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً، ويقول على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك ؟
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله :﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ على أن الثواب غير واجب على الله تعالى، لأن من قال السلطان وعد فلاناً أن يعطيه كذا، فإنه يحمل ذلك على التفضيل، فأما لو كان ذلك الإعطاء واجباً لا يقال إنه وعده به، أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضاً على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد إنما حصل معللاً بصفة التقوى، والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجباً.
المسألة الثالثة : قال أبو مسلم : جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء، كالشكر / والشكور قال الله تعالى :﴿لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلا شُكُورًا﴾ (الإنسان : ٩) فإن قيل : الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله :﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ ؟
قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال، كما يقال الله الخالق البارىء، وما هنا من هذا الباب.
أما قوله :﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيرًا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين : الأول : أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق، فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء، والثاني : لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله :﴿جَزَآءً﴾ وبين قوله :﴿مَصِيرًا﴾ تفاوت فيصير ذلك تكراراً من غير فائدة. قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه ﴿جَزَآءً﴾، إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق، وليس في الآية ما يدل على التعيين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
المسألة الثانية : قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين : الأول : أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقاً للثواب، لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر، والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع، والجمع بينهما محال، وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه، فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول : لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة، وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة، إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، لأنه تعالى قال :﴿فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ﴾ (الشورى : ٧) وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى :﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيرًا﴾ فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقاً لهم، وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز/ ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال : المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة ؟
فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها، الوجه الثاني : قالوا : المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر، وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمناً أم لا، لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقياً، ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيراً وهذا للحصر، والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم، وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة، قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً، لكنها بعد ما صارت كذلك، فلم قال الله تعالى :﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيرًا﴾ ؟
جوابه من وجهين : الأول : أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني : أنه كان مكتوباً في اللوح قبل أن يخلقهم / الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
أما قوله تعالى :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـالِدِينَ ﴾ فهو نطير قوله :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ (فصلت : ٣١) وفيه مسائل :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٤٧


الصفحة التالية
Icon