المسألة الأولى : لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ وأيضاً فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه، فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله :﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ﴾ وفي قوله :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ وجوابه : أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلاً عن الالتفات إلى حال غيره.
المسألة الثانية : شرط نعيم الجنة أن يكون دائماً، إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي :
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَـالِدِينَ ﴾.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك، بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات، ولذلك قال عليه السلام :"من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق، فقيل وما هو يا رسول الله ؟
فقال سرور يوم".
أما قوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْـاُولا﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : كلمة (على) للوجوب قال عليه السلام :"من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى" فقوله :﴿كَانَ عَلَى رَبِّكَ﴾ يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى، والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم، أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعاً، فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالاً، لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال، ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالاً والمحال غير مقدور، فلم يكن الله تعالى قادراً على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل، وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعاً يكون القول بالإلجاء لازماً، فلم يكن الله قادراً، فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد/ فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذباً وعلمه جهلاً وذلك محال، والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً، ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح، / تمام السؤال وجوابه : أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله، فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء، فكان قادراً ومستحقاً للثناء والمدح.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
المسألة الثانية : قوله :﴿وَعْدًا﴾ يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره.
المسألة الثالثة : قوله :﴿مَسْـاُولا﴾ ذكروا فيه وجوهاً أحدها : أن المكلفين سألوه بقولهم :﴿رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ (آل عمران : ١٩٤)، وثانيها : أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائماً مقام السؤال، قال المتنبي :
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها : الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم :﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾ (غافر : ٨) ورابعها :﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـاُولا﴾ أي واجباً، يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً وإن لم تسأل، قال الفراء. وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة، وما قاله الفراء مجاز وخامسها : مسؤولاً أي من حقه أن يكون مسؤولاً لأنه حق واجب، إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٤٧
٤٥٢
اعلم أن قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ راجع إلى قوله :﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً﴾ (الفرقان : ٣) ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى :﴿يَحْشُرُهُمْ﴾ فنقول كلاهما بالنون والياء وقرىء ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ بكسر الشين.


الصفحة التالية
Icon