المسألة السادسة : اختلفوا في أن الذين يقولون حجراً محجوراً من هم ؟
على ثلاثة أقوال : القول الأول : أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، (ثم) إذا رأوهم عند الموت (و)يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو (الموتور) ونزول الشدة القول الثاني : أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى، أي جعل الله ذلك حراماً عليكم، ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم، قالت الحفظة لهم حجراً محجوراً، وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجراً محجوراً، وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجراً محجوراً القول الثالث : وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجراً محجوراً، فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم.
أما قوله تعالى :﴿وَقَدِمْنَآ﴾ فقد استدلت المجسمة بقوله :﴿وَقَدِمْنَآ﴾ لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام، وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث، ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز / وجل لا يجوز أن يكون محدثاً، فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه : أحدها :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾ أي وقصدنا إلى أعمالهم، فإن القادم إلى الشيء قاصد له، فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازاً وثانيها : المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة، ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول ﴿وَقَدِمْنَآ﴾ على سبيل التوسع ونظيره قوله :﴿فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ (الزخرف : ٥٥) وثالثها :﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ (النمل : ٣٤) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال ﴿وَقَدِمْنَآ﴾.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٥
أما قوله :﴿إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾ يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى، والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان.
أما قوله :﴿فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾ فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى :﴿كَسَرَابا بِقِيعَةٍ﴾ (النور : ٣٩) ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ (إبراهيم : ١٨) ﴿كَعَصْفٍ مَّأْكُول ﴾ (الفيل : ٥) قال أبو عبيدة والزجاج : الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس. وقال مقاتل : إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب.
أما قوله :﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهاً على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى، وههنا سؤالات :
الأول : كيف يكون أصحاب الجنة خيراً مستقراً من أهل النار، ولا خير في النار، ولا يقال في العسل هو أحل من الخل ؟
والجواب من وجوه : الأول : ما تقدم في قوله :﴿أَذَالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ (الفرقان : ١٥) والثاني : يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خير من النار، كقول الشاعر :
ف إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
الثالث : التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع، والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع : هذا التفاضل واقع على هذا التقدير، أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيراً منه.
السؤال الثاني : الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك ؟
والجواب من وجوه : الأول : أن المستقر مكان الاستقرار، والمقيل زمان القيلولة، فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان الثاني : أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم، فإنهم يقيلون في الفردوس، ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث : أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة، قال ابن مسعود :"لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار" وقرأ ابن مسعود :(ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم). / وقال سعيد بن جبير : إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقال مقاتل : يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا، ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٥


الصفحة التالية
Icon