المسألة الثانية : لقائل أن يقول إن قول محمد عله السلام :﴿لِلانسَـانِ خَذُولا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَـارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا ﴾ في المعنى كقول نوح عليه السلام ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا﴾ (نوح : ٥، ٦) وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنبياء : ١٠٧) ؟
جوابه : أن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٨
المسألة الثالثة : قوله ﴿جَعَلْنَا﴾ صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي﴾ (الحجر : ٨٧) وقوله :﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (الكوثر : ١) فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا ؟
وجوابه : أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب والله أعلم.
المسألة الرابعة : يجوز أن يكون العدو واحداً وجمعاً كقوله :﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى ﴾ (الشعراء : ٧٧) وجاء في التفسير أن عدو الرسول صلى الله عليه وسلّم أبو جهل.
أما قوله :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهادياً ونصيراً منصوبان على الحال هادياً إلى مصالح الدين والدنيا، ونصيراً على الأعداء، ونظيره ﴿حَكِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. (الأنفال : ٦٤)
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٨
٤٥٩
اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى / والزبور على داود، وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله :﴿كَذَالِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ وبيان هذا الجواب من وجوه : أحدها : أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو، وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها : أن من كان الكتاب عنده، فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها : أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك، أما لما نزل مفرقاً منجماً لا جرم نزلت التكاليف قليلاً قليلاً فكان تحملها أسهل ورابعها : أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل، وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها : أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً، فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً وسادسها : كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة، لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها : أن القرآن لما نزل منجماً مفرقاً وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها : أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقاً منجماً.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٥٩


الصفحة التالية
Icon