أما قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ فتعلق ذلك بما تقدم، هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله، والله تعالى بعث رسوله لنفعهم، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة، وينذرهم على المعصية، فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب، فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنيا، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٧٩
أما قوله :﴿إِلا مَن شَآءَ﴾ فذكروا فيه وجوهاً متقاربة أحدها : لا يسألهم على الأداء والدعاء أجراً إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره، فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها : قال القاضي : معناه لا أسألكم عليه أجراً لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : مثال قوله :﴿إِلا مَن شَآءَ﴾ والمراد إلا فعل من شاء، واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثواباً، فإني أطلب الثواب، والثانية إظهار الشفقة البالغة، وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي، ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً، تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة، وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
أما قوله :﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾ فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه، فأمره بأن لا يطلب منهم أجراً ألبتة، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وفي جلب جميع المنافع، وإنما قال :﴿عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾ لأن من توكل على الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعاً، أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه ألبتة.
أما قوله :﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِه ﴾ فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول، ومنهم من حمله على الصلاة، ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال :﴿وَكَفَى بِه بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرًا﴾ وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال : كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك، أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد، كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٧٩
٤٨٠
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور : أولها : بأنه حي لا يموت وهو قوله :﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾ (الفرقان : ٥٨) وثانيها : أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله :﴿وَكَفَى بِه بِذُنُوبِ عِبَادِه خَبِيرًا﴾ (الفرقان : ٥٨) وثالثها : أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله :﴿الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ فقوله :﴿الَّذِى خَلَقَ﴾ متصل بقوله :﴿الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ﴾ لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه. وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : الأيام عبارة عن حركات الشمس في السموات فقبل السموات لا أيام، فكيف قال الله خلقها في ستة أيام ؟
الجواب : يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً، بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول هذا / معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام، والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام، فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام، ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.


الصفحة التالية
Icon