المسألة الثانية : قرىء (يضيق) و(ينطلق) بالرفع، لأنهما معطوفان على خبر (إن)، وبالنصب لعطفهما على صلة أن، والمعنى : أخاف أن يكذبون، وأخاف أن يضيق صدري، وأخاف أن لا ينطلق لساني، والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هرون، والنصب يفيد علة / واحدة، وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة، فإن قلت : الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلاً، فكيف جاز تعلق الخوف به ؟
قلت : قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب، وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس، فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة، فجاز تعليق الخوف عليها.
أما قوله تعالى :﴿فَأَرْسِلْ إِلَى هَـارُونَ﴾ فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه، قال السدي : إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهرون وهو لا يعرفه، فقال أنا موسى، فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه، ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل، لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام، فلما كان هو متعيناً لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلوماً، وأيضاً ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا، لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل، كما يقال إذا نابتك نائبة، فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس في الظاهر أنه التمس كون هرون نبياً معه، لكن قوله :﴿فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ يدل عليه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
أما قوله :﴿وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنابٌ﴾ فأراد بالذنب قتله القبطي، وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص.
واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام، أن يضم إليه هرون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين، وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد، والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه، فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به/ وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت، ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام :﴿وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنابٌ﴾ هل يدل على صدور الذنب منه ؟
جوابه : لا والمراد لهم عليَّ ذنب في زعمهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
٤٩٦
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين : الأول : أن يدفع عنه شرهم والثاني : أن يرسل معه هرون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله :﴿كَلا ﴾ ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله :﴿فَاذْهَبَا﴾ أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون فإن قيل علام عطف قوله :﴿فَاذْهَبَا﴾ قلنا على الفعل الذي يدل عليه (كلا) كأنه قال : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهرون.
وأما قوله :﴿إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ﴾ فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذاً أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما، وإنما جعلنا الاستماع مجازاً لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال.
وأما قوله :﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ ففيه سؤال وهو أنه هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله :﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ جوابه من وجوه : أحدها : أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق، بدليل أنك تقول الإنسان هو الضحاك ولا تقول كل إنسان هو الضحاك ولا أيضاً هذا الإنسان هو الضحاك، وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله :﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ وثانيها : أن الرسول قد يكون بمعنى الرسالة قال الشاعر :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى إنا ذو رسالة رب العالمين وثالثها : أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد ورابعها : المراد كل واحد منا رسول وخامسها : ما قاله بعضهم أنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة وقوله :﴿أَنَا ﴾ فكما في قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ﴾ (يوسف : ٢) وهو ضعيف.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٤٩٦


الصفحة التالية
Icon