المسألة الأولى : اليوم المعلوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله :﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (طه : ٥٩) والميقات ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام.
المسألة الثانية : اعلم أن القوم لما أشاروا بتأخير أمره وبأن يجمع له السحرة ليظهر عند حضورهم فساد قول موسى عليه السلام، رضي فرعون بما قالوه وعمي عما شاهده وحب الشيء يعمي ويصم فجمع السحرة ثم أراد أن تقع تلك المناظرة يوم عيد لهم ليكون ذلك بمحضر الخلق العظيم وكان موسى عليه السلام يطلب ذلك لتظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم وكان هذا أيضاً من لطف الله تعالى في ظهور أمر موسى عليه السلام.
أما قوله :﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ﴾ فالمراد أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين.
وأما قوله :﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ فالمراد إنا نرجو أن يكون الغلبة لهم فنتبعهم فلما جاء السحرة ابتدأوا بطلب الجزاء، وهو إما المال وإما الجاه فبذل لهم ذلك وأكده بقوله :﴿وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ لأن نهاية مطلوبهم منه البذل ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٤
٥٠٥
اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم، وقالوا :﴿إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾ (طه : ٦٥) فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه، وقال :﴿أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ﴾ فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب : لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري / مجرى المغالبة، وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه : أحدها : ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ (البقرة : ٢٣) وثانيها : لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً وثالثها : أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله، كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديداً ورابعها : ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سبباً لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب، وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع، لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة، فبأن يفعل الواحد منا أولى.
أما قوله تعالى :﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ﴾ فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه، فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٥
واعلم أن في الآثار اختلافاً فمنهم من كثر الحبال والعصي، ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك، والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد، ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغاً يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة.
وأما قوله :﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـالِبُونَ﴾ فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون، وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام.
أما قوله :﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ فالمراد من قوله :﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم (ويزورونه) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى، (بالتمويه على الناظرين أو إفكهم) وسمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة.


الصفحة التالية
Icon