أما قوله :﴿فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ﴾ فالمراد خروا سجداً لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر/ فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجاً عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر، وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر، ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً، فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به ؟
جوابه : هو الله تعالى بما (حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات / ولكن الأولى) أن لا نقدر فاعلاً لأن ألقى بمعنى خر وسقط.
أما قوله :﴿رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ﴾ فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهرون عليهما السلام إليه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٥
٥٠٧
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه : أولها : قوله :﴿قَالَ ءَامَنتُمْ لَه قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ﴾ وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه، وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها : قوله :﴿إِنَّه لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وهذا تصريح بما رمز به أولاً، وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام، وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام، وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها : قوله :﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها : قوله :﴿لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ وَلاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم، وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل، ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين : الأول : قولهم :﴿لا ضَيْرَا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ الضر والضير واحد، وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء.
واعلم أن قولهم :﴿إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب / الله تعالى أنهم ما أرادوا شيئاً سوى الوصول إلى حضرته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته، وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني : قولهم :﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـايَـانَآ﴾ فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما، والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم ﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء : ٨٢) ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٧
أما قوله :﴿أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف، أو يكون المراد من السحرة خاصة، أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم، وقرىء (إن كنا) بالكسر، وهو من الشرط الذي يجيء به المدل (بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين)، ونظيره قول (القائل) لمن يؤخر جعله : إن كنت عملت لك فوفني حقي.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٧
٥٠٩
قرىء ﴿أَسْرِ﴾ بقطع الهمزة ووصلها وسر. لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية، أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم، ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال، فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل، / وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى، ولا شبهة أن في الكلام حذفاً وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى، ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين، ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم.


الصفحة التالية
Icon