فالصفة الأولى : قوله :﴿إِنَّ هَـا ؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ والشرذمة الطائفة القليلة، ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي، وتقطع قطعاً ذكرهم بالاسم الدال على القلة، ثم جعلهم قليلاً بالوصف، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة (وقد يجمع القليل على أقلة وقلل)، ويجوز أن يريد بالقلة الذلة (والقماءة) لا قلة العدد، والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم، ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة، ولا شيخ يوفي على الستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه، وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه، فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٩
الصفة الثانية : قوله :﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآاـاِظُونَ﴾ يعني يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه : أحدها : ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها : خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها : مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها : ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً. أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله :﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـاذِرُونَ﴾ وفيه ثلاث قراءات (حذرون) و(حاذرون) و(حادرون) بالدال غير المعجمة.
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث، وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت، فمن قرأ ﴿حَـاذِرُونَ﴾ ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم، ومن قرأ ﴿حَـاذِرُونَ﴾ فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا. وأما من قرأ بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلاً، لأن الحادر هو المشمر، فأراد إنا قوم أقوياء أشداء، أو أراد إنا مدججون في السلاح/ والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم.
أما قوله تعالى :﴿فَأَخْرَجْنَـاهُم﴾ فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل، فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة.
وأما قوله :﴿مِّن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ﴾ فقال مجاهد : سماها كنوزاً، لأنهم لم ينفقوا منها في / طاعة الله تعالى، والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية، والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة، والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل. أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، والجر على أنه وصف لمقام كريم، أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك.
أما قوله :﴿فَأَتْبَعُوهُم﴾ أي فلحقوهم، وقرىء (فاتبعوهم) ﴿مُّشْرِقِينَ﴾ داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقاً إذا طلعت.
أما قوله :﴿فَلَمَّا تَرَا ءَا الْجَمْعَانِ﴾ أي رأى بعضهم بعضاً، قال أصحاب موسى :﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ أي لملحقون ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنا بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ كانوا يذبحون أبناءنا، من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يدركوننا، أي في الساعة فيقتلوننا، وقرىء ﴿فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى، ومنه قوله تعالى :﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الآخِرَةِ ﴾ (النمل : ٦٦) قال الحسن : جهلوا علم الآخرة، والمعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، فعند ذلك قال لهم كلا وذلك كالمنع مما توهموه، ثم قوى نفوسهم بأمرين : أحدهما :﴿إِنَّ مَعِىَ رَبِّى﴾ وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني : قوله :﴿سَيَهْدِينِ﴾ والهدى هو طريق النجاة والخلاص، وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه، فقد بلغ النهاية في النصرة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٠٩
٥١١


الصفحة التالية
Icon