واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام، فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم :﴿إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار، وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها. فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة، والذي يحمل على أنه خطاب في الحقيقة قولهم :﴿وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلا الْمُجْرِمُونَ﴾ وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم :﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾ (الأحزاب : ٦٧) فأما قولهم :﴿فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ﴾ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ﴿وَلا صَدِيقٍ﴾ كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى :﴿الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف : ٦٧) أو ﴿فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ (الشعراء : ١٠٠، ١٠١) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس، أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم، فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع، لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم، والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك، أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص، وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك، فأعز من بيض الأنوق، ويجوز أن / يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم :﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة، وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت. قال الجبائي : إن قولهم ﴿فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً، لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة، وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الأنعام : ٢٨) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام. ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال :﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، فيما يجده من تكذيب قومه.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٢٢
فأما قوله :﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا.
القصة الثالثة ـ قصة نوح عليه السلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٢٢
٥٢٤
اعلم أنه تعالى لما قص على محمد صلى الله عليه وسلّم خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره، لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبه قومه فقال :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ وإنما قال (كذبت) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة، وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين : أحدهما : أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره، لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما : أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة.
وأما قوله :﴿أَخُوهُمْ﴾ فلأنه كان منهم، من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم، ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم، وثانياً أنه وصف نفسه، أما التخويف فهو قوله :﴿أَلا تَتَّقُونَ﴾.


الصفحة التالية
Icon