فرع : اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى، أما الصدر فلقوله تعالى :﴿وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ﴾ (العاديات : ١٠) وقوله :﴿وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ﴾ (آل عمران : ١٥٤) وقوله تعالى :﴿إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (هود : ٥)، ﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ (آل عمران : ٢٩) وأما الفؤاد فقوله :﴿وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ﴾ ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال : القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم، ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان، وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلباً وفؤاداً موضعاً هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار، وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع، كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب، فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني، فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة/ واسم الفؤاد يكون اسماً لمجموع العضو، فهذا هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب.
وأما قوله تعالى :﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعاً يدخل الخوف من العقاب.
وأما قوله تعالى :﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان، وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام، وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي (لتجافوا عنه أهلاً و) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها.
وأما قوله تعالى :﴿وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ﴾ فيحتمل هذه الأخبار خاصة، ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن، ويحتمل صفة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف، لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٤
٥٣٥
اعلم أن قوله تعالى :﴿أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَه عُلَمَـا ؤُا بَنِى إسرائيل ﴾ المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه، وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته، وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر، وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعاً على نبوته، واعلم أنه قرىء ﴿يَكُن﴾ بالتذكير، وآية النصب على أنها خبره و(أن يعلمه) هو الاسم، وقرىء ﴿تَكُن﴾ بالتأنيث وجعلت (آية) اسماً و(أن يعلمه) خبراً، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً، ويجوز مع نصب الآية تأنيث (يكن) كقوله :﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا ﴾ (الأنعام : ٢٣).
وأما قوله :﴿وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ﴾ فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال :﴿وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ﴾ يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه، وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى، فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً، ثم قال :﴿كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم، وهكذا مكناه وقررناه فيها / وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر، وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس، وفي المثل : اليأس إحدى الراحتين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٥


الصفحة التالية
Icon