المسألة الرابعة : قوله :﴿كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه، قال صاحب "الكشاف" : أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب : أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم، فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود، فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة، امتنع قوله :﴿كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ﴾ كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم، امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران.
المسألة الخامسة : قال صاحب "الكشاف" : فإن قلت : ما موقع ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِه ﴾ من قوله ﴿سَلَكْنَـاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ ؟
قلت موقعه منه موقع الموضح (والمبين)، لأنه مسوق (لبيانه مؤكد للجحود) في قلوبهم، فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٥
٥٣٥
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال :﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ﴾ كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ، لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً.
فأما قوله تعالى :﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب، مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به، ثم بين / تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا، إلا أن ذلك جهل، وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة، ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية، وليس في العقل ترجيح لذات متناهية قليلة على آلام غير متناهية، وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف، فقال له عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت، وقرىء ﴿يُمَتَّعُونَ﴾ بالتخفيف، ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة.
أما قوله تعالى :﴿ذِكْرَى ﴾ فقال صاحب "الكشاف" : ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة، إما لأن أنذر وذكر متقاربان، فكأنه قيل مذكرون تذكرة، وإما لأنها حال من الضمير في ﴿مُنذِرُونَ﴾، أي ينذرونهم ذوي تذكرة، وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى، وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها، ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له، والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم، ﴿وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ﴾ فنهلك قوماً غير ظالمين، وهذا الوجه عليه المعول، فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا، ولم تعزل عنه في قوله :﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾ (الحجر : ٤) قلت : الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٥
٥٣٧


الصفحة التالية
Icon