اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم بكون القرآن تنزيل رب العالمين، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة ؟
، فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء، ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق، فإذا أثبتنا كون / محمد صلى الله عليه وسلّم صادقاً بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب، ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك، لزم الدور وهو باطل وجوابه : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو، ونعلم بالضرورة أن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم، فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين، لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم، فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى، فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك، وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال :﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ﴾ وذلك في الحقيقة خطاب لغيره، لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك، فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٧
٥٣٨
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثاً، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة : الأول : قوله :﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ﴾ وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع، وروي "أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال : يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم محمد، يا صفية عمة محمد ؛ إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من المال / ما شئتم" وروي "أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس، فأكلوا وشربوا، ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً، أكنتم مصدقي ؟
قالوا نعم فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
الثاني : قوله :﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب، فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال :﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ؟
جوابه : لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٨


الصفحة التالية
Icon