فأما قوله :﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فمعناه ظاهر، قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم، وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله، كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك، وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له ؟
الجواب : أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها، فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها، وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال، وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث : قوله :﴿وَتَوكَّلْ﴾ والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره، وقوله :﴿عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة، وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه : أحدها : المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال (المجتهدين) ليطلع على أسرارهم، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها : المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم وثالثها : أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها : المراد تقلب بصره فيمن (يلي) خلفه من قوله صلى الله عليه وسلّم :"أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي" ثم قال :﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ﴾ أي لما تقوله ﴿الْعَلِيمُ﴾ أي بما تنويه وتعمله، وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته. واعلم أنه قرىء.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٨
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي صلى الله عليه وسلّم كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية / وبالخبر، أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى :﴿تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن، وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان، وأما الخبر فقوله عليه السلام :"لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ (التوبة : ٢٨) قالوا : فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى :﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ﴾ (الأنعام : ٧٤) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له :﴿نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاه مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ﴾ (البقرة : ١٣٣) فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له، وقال عليه السلام :"ردوا على أبي" يعني العباس، ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى :﴿وَمِن ذُرِّيَّتِه دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ إلى قوله :﴿وَعِيسَى﴾ (الأنعام : ٨٤، ٨٥) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم.
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى :﴿لابِيهِ ءَازَرَ﴾ وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره، وأما حمل قوله :﴿وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ﴾ على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز، وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٣٨
٥٤٠


الصفحة التالية
Icon