البحث الثالث : السبب الذي لأجله بوركت البقعة، وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله :﴿وَنَجَّيْنَـاهُ وَلُوطًا إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنبياء : ٧١) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
البحث الرابع : أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله :﴿بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها. وقوله :﴿وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ فيه فائدتان : إحداهما : أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية : أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع.
أما قوله :﴿إِنَّه ا أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فقال صاحب "الكشاف" الهاء في (إنه) يجوز أن يكون ضمير الشأن و﴿أَنَا اللَّهُ﴾ مبتدأ وخبر، و﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ صفتان للخبر، وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان (للتعيين) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل (كل) ما أفعله بحكمة وتدبير. فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى، فكيف علم موسى / عليه السلام أنه من الله ؟
جوابه : لأهل السنة فيه طريقان : الأول : أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني : قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور : أحدها : أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها : يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً، وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها : أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك، فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز، وهذا هو الأصح والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٤٦
٥٥٠
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه، ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع : يقال علام عطف قوله :﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ ﴾ ؟
جوابه : على ﴿بُورِكَ مَن فِى النَّارِ﴾ (النمل : ٨) (وأن ألق عصاك، كلاهما تفسير لنودي).
أما قوله :﴿كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ فالجان الحية الصغيرة، سميت جاناً، لأنها تستتر عن الناس، وقرأ الحسن ﴿جَآنٌّ﴾ على لغة من يهرب من التقاء الساكنين، فيقول شأبة ودأبة.
أما قوله :﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ ﴾ معناه لم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا (مر) بعد الفرار، وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به، ويدل عليه ﴿إِنِّى لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ وقال بعضهم : المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة.
أما قوله تعالى :﴿إِلا مَن ظَلَمَ﴾ معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة، ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة. قال الحسن رحمه الله : كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل، فإنه عليه السلام قال :﴿رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى﴾ (القصص : ١٦) وقرىء (ألا من ظلم) بحرف التنبيه.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا بَعْدَ سُواءٍ﴾ فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب، وعن أبي بكر في رواية عاصم (حسناً). أما قوله :﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى﴾ فهو كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف، والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون، ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة، اثنتان منها اليد والعصا، والتسع : الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٠
أما قوله :﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ فقد جعل الإبصار لها، وهو في الحقيقة لمتأملها، وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها، أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي، وقرأ علي بن الحسين وقتادة ﴿مُبْصِرَةً﴾ وهو نحو مجبنة ومبخلة، أي مكاناً يكثر فيه التبصر.


الصفحة التالية
Icon