أما قوله :﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ﴾ فالواو فيها واو الحال، وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.
أما قوله :﴿ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى، ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً. وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله :﴿فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ﴾ (المؤمنون : ٤٦) وقرىء (علياً) و(علياً) بالضم والكسر، كما قرىء (عتياً) ﴿عِتِيًّا﴾ (مريم : ٨، ٦٩) والله أعلم.
القصة الثانية ـ قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٠
٥٥٢
أما قوله تعالى :﴿عِلْمًا﴾ فالمراد طائفة من العلم أو علماً سنياً (عزيزاً)، فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك أعطيته فشكر (ومنعته)(١) فصبر ؟
جوابه : أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات، ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقاً بهما فلا جرم صار كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً، فعملا به قلباً وقالباً، وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا.
وأما قوله تعالى :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ففيها أبحاث :
أحدها : أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها : في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها : أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها : أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم، ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره، فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم، ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سبباً لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جلياً بحيث يصير المرء مستغرقاً / فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٢
أما قوله تعالى :﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ ﴾ فقد اختلفوا فيه، فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث، وقال غيره بل النبوة، وقال آخرون بل الملك والسياسة، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط، وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان، وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته، كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله :﴿وَقَالَ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ معنى، وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه، وكذلك قوله تعالى :﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ ﴾ لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله :﴿إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص، وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه، فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال، فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها، بل بظاهر قوله عليه السلام :"نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
فأما قوله :﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، قال صاحب "الكشاف" المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وقد ترجم يعقوب كتابه "بإصلاح المنطق" وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب نطقت الحمامة (وكل صنف من) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه.
أما قوله تعالى :﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ ﴾ فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة، والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾ (النمل : ٢٣).
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٢


الصفحة التالية
Icon