وأما قوله :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾ ففيه سؤال وهو أنه كيف قال :﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ﴾ مع قول سليمان ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ ﴾ (النمل : ١٦) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه : أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا.
وأما قوله :﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه سؤال، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟
وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم ؟
والجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان، وعن الثاني : أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض، واعلم أن ههنا بحثين :
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٤
البحث الأول : أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه : أحدها : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس، وبالنحو من سيبويه، وكذا القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم / الأنبياء والتكاليف والمعجزات، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها : أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه ؟
وثالثها : كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟
والجواب عن الأول : أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل، وإنما يدفع ذلك بالإجماع، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك.
البحث الثاني : قالت المعتزلة قوله :﴿يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ﴾ يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها : أنه متروك الظاهر، فإنه قال :﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف، فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب : قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة والله أعلم.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٤
٥٥٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قوله تعالى :﴿أَلا يَسْجُدُوا ﴾ قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف (ألا) للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف، كما حذفه من قال :
ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى
(ولا زال منهلاً بجرعائك القطر)
وثانيها : بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة، ويكون المعنى فهم لا يهتدون (إلا) أن يسجدوا وثالثها : وهي حرف عبدالله و(هي) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء، وعن عبدالله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها : قراءة أبي ﴿أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
المسألة الثانية : قال أهل التحقيق قوله :﴿أَلا يَسْجُدُوا ﴾ يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادراً على إخراج الخبء عالماً بالأسرار معنى.
المسألة الثالثة : الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم، أما القدرة فقوله :﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ وسمي المخبوء بالمصدر، وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث، ومن الأرض بالنبات. وأما العلم فقوله :﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٥


الصفحة التالية
Icon