واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا : الإله يجب أن يكون قادراً على إخراج الخبء وعالماً بالخفيات، والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهاً وإذا لم تكن إلهاً لم يجز السجود لها، أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكور، فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض، وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه، وكل ما كان متناهياً في الذات كان متناهياً في الصفات، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات، فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار، فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله :﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢) وفي قوله :﴿لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله :﴿رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ﴾ (البقرة : ٢٥٨) وفي قوله :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ (البقرة : ٢٥٨) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ (الأنعام : ٧٦) ومن قوله :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ ومن قوله موسى عليه السلام :﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ (الشعراء : ٢٨) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى، وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه، فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال :﴿رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ﴾ ثم قال :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾ وموسى عليه السلام قال :﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ﴾ (الشعراء : ٢٦) ثم قال :﴿رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض ؟
جوابه : أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظراً مع من ادعى إلهية البشر، فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات، وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله :﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٥
أما قوله :﴿اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم.
المسألة الرابعة : قيل من ﴿أَحَطتُ﴾ إلى ﴿الْعَظِيمِ ﴾ كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة.
المسألة الخامسة : الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة، وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه.
المسألة السادسة : يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين ؟
جوابه : نعم إذا خفف وقف على ﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ﴾ (النمل : ٢٤) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على (العرش العظيم).
أما قوله :﴿سَنَنظُرُ﴾ فمن النظر الذي هو التأمل، وأراد صدقت أم كذبت إلا أن ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ﴾ أبلغ، لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به، وإنما قال :﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ على لفظ الجمع لأنه قال :﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ﴾ (النمل : ٢٤) فقال :﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ أي إلى الذين هذا دينهم.
أما قوله :﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و﴿يَرْجِعُونَ﴾ من قوله تعالى :﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ (سبأ : ٣٠) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة.
جزء : ٢٤ رقم الصفحة : ٥٥٥
٥٥٦


الصفحة التالية
Icon